قال عز وجل: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الأعراف:11]، وإبليس أصله: من الإبلاس: وهو اليأس، كما سمي إبليساً؛ ليأسه من رحمة الله بعد إبائه وكفره وتكبره والعياذ بالله! وإبليس لم يكن أصلاً من الملائكة وإنما خلق من النار كما وصف الله عز وجل حيث قال: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50] فدل ذلك على أن أصله من الجن، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم) أي: من الطين، فإبليس مخلوق من النار، والملائكة مخلوقة من النور، فلماذا كان الأمر للملائكة أمراً لإبليس؟ لأن إبليس كان يعبد الله عز وجل حتى صار كواحد منهم، وارتفع في المنازل العالية، وهذا يدلنا على أن العبرة بالأعمال وليس بأصل الخلقة؛ فلذلك الملائكة خلقت من النور ومع ذلك فالذي خلق من الطين فآمن وعمل صالحاً يصل إلى المراتب العالية أعلى ممن خلق من النور، فهذا نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم يصعد في المعراج إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، ويرتفع إلى مراتب أعلى من جبريل عليه السلام، وهو خير الخليقة على الإطلاق عليه الصلاة والسلام، وإبراهيم خليل الرحمن خير البرية بعده عليهما الصلاة والسلام، فإبليس عندما عبد الله عز وجل وكان مطيعاً لله سبحانه وتعالى صار كواحد من الملائكة.
فلما قيل للملائكة: ((اسْجُدُوا لِآدَمَ)) كان الأمر لإبليس أيضاً كواحد منهم رغم أن صفته تختلف عن صفتهم، والدليل على ذلك: أن ما وقع في نفسه مما لا يقع في أنفس الملائكة، فإن الملائكة لا يقع في أنفسها مخالفة أمر الله، لكنه مكلف، وكان في نفسه من إرادة الشر والسوء ما لا يمكن أن يقع من الملائكة الذين عصمهم الله عز وجل عن إرادة ما يخالف أمره سبحانه وتعالى، قال تعالى: ((إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ))، فامتنع من السجود -والعياذ بالله- وتحولت حاله، فبعد أن كان في المنازل العالية -لنتعظ من قصة إبليس كيف أن المعصية تهوي بالإنسان وتخرجه بعد أن كان في القرب والدنو وفي السموات العلا- أصبح ذلك في الحضيض الأسفل، فمنزلة المخلوق تكون على حسب عبادته، إبليس كان في الملأ الأعلى ثم بعد ذلك لما عصى وتكبر وكفر والعياذ بالله صار إلى أسفل سافلين؛ ولذلك فالعبرة بالخواتيم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيكون من أهلها).
فلا تغتر، وكن على حذر، ولا تأمن مكر الله ولو كانت إحدى قدميك في الجنة، فخير الناس بعد الأنبياء يقولون ذلك، بل الأنبياء أنفسهم يعلمون ما كتب الله عز وجل لهم من الفوز والسعادة ولكنهم مشفقون على الدوام، ويعبدون الله إلى آخر لحظات عمرهم كما أمر الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام حيث قال: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، قال عز وجل: {إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:11 - 12] أي: ما الذي دفعك إلى عدم السجود حين أمرتك؟ وهذا مما يحتج به أهل العلم على أن الأمر المجرد عن القرائن يقتضي الوجوب، فإذا أمر الله عز وجل بأمر فهو للوجوب، وكذلك أمر رسوله الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يأمر الرسول عليه الصلاة والسلام من قبل نفسه وإنما يأمر بوحي الله، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] لذا قال العلماء: إن الآمر هو الله عز وجل أصلاً، وهو الذي له الحكم أصلاً، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مبلغ عن الله، فإذا وجدت أن الله أمر فهذا واجب يلام من تركه ويعاقب، وذلك أن الأمر كان: ((اسْجُدُوا لِآدَمَ)) فهو أمر مجرد، والأمر المجرد يقتضي الوجوب عند عامة أهل العلم، واحتجوا بظواهر الأدلة من الكتاب والسنة في مواضع كثيرة على أن الأمر للوجوب كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، فدل ذلك على أنه لو أمر لوجب، ولكنه لا يريد أن يشق عليهم.
وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ سراقة أو غيره لما سأله في الحج: (أفي كل عام يا رسول الله؟ قال: لو قلت: نعم! لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، فذروني ما تركتكم) وإذا أمرنا النبي عليه الصلاة والسلام بشيء ابتدرنا أمره، فهذا هو الواجب، ولم يجز لنا أن نقول: هذا الأمر لماذا؟ وكيف؟ وما العلة فيه؟ وما الحكمة منه؟! فهذا ليس بأسلوب المؤمنين، فالمؤمنون يخضعون لأمر الله عز وجل، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم.