قال تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البروج:9].
لا تظنوا -عباد الله- أنما جرى للمؤمنين في هذه القصة وفي غيرها أن ملك الله قد نقص، أو أن ملكه كان في السماوات دون الأرض، أو أن الكفرة أخذوا شيئاً من ملكه، فالملك لله عز وجل كما قال جل وعلا في علاه: ((لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ))، فالملك هو الذي أراد أن يجتبي بعض عباده ويختبرهم وينظر كيف يضحون في سبيله.
ووالله إن هذا الأمر لظاهر جلي لمن تأمل هذا الكون، أبعد أن ملك الكفرة ما ملكوا من أنواع القوة أهم يملكون شيئاً في السماوات؟! أيملكون أن يمنعوا سقوط مطر أو حصباء عليهم من السماء؟! أهم يملكون شيئاً في هذه الأرض التي تحت أرجلهم؟ لو أنها اقتربت من الشمس قليلاً أهم يستطيعون إبعادها؟! لو اقتربت من الشهب والنيازك المدمرة أهم يستطيعون منعها؟! وهذه الأرض التي نسير عليها أيملك أحد أن يوقفها عن الاهتزاز والاضطراب إذا أمرها الله بالزلزلة، وأوحى لها بأن تتزلزل وأن تخرج ما فيها؟ لا والله لا يملك أحد ذلك، وأنى للعباد أن يملكوا؟ فحقيقة أكيدة أن الله له ملك السماوات والأرض، ولكنه عز وجل إذا أراد أن يجتبي طائفة من عباده ألقاهم وسط عدوهم وجنده محيط بالعدو من كل جانب، وأعداد جنده لا يحيط علماً بها سواه، كما قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر:31].
ففي السماء ما من موضع أربع أصابع إلا وفيها ملك قائم أو راكع أو ساجد، ويدخل البيت المعمور كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة.
وقال جل في علاه: {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا} [الجن:24]، فهم الأقلون عدداً وجند الله أكثر، ولكنه سبحانه وتعالى أراد أن يختبر عباده المؤمنين لينظر ماذا يفعلون؟ أيظلون على إيمانهم وإسلامهم وطاعتهم له وسط هذه الظروف أم يتخلون عن ذلك؟ والله يحب أن يعبد سبحانه وتعالى في الشدة كما يعبد في الرخاء، ويحب أن يعبد في السراء والضراء، ويحب أن يرى من عباده المؤمنين الصبر والثبات رغم شدة المنازعة والمدافعة، ولذلك ألقى بعباده المؤمنين -الذين هم عنده في الآخرة أفضل من ملائكته، بل يجعل الملائكة تسلم عليهم وتدخل عليهم من كل باب- ألقاهم وسط هذا الجو المليء بالفتنة والمحنة، ولذلك لا تظن أبداً أن ملك الله قد نقص أو قد زال عن بقعة من الأرض، بل هو ((الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)).
ولا تظنن أيضاً أن هذا الأمر قد وقع في غياب من الله عز وجل فلا يظن ذلك إلا كافر، قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف:7]، ويقول تعالى: {اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج:17]، ويقول تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سبأ:47] فهو يشهد ما يقع وما يجري من قتل المسلمين، ومن أذيتهم، ومن إحراقهم هم وصبيانهم بالنار رجالاً ونساء وأطفالاً يحرقون بالنار؛ لأنهم قالوا: آمنا بالله رب الغلام، وإنما ترك هذا الأمر وفي قدرته وعزته وحمده وملكه أن يغير هذا الأمر؛ لأنه يريد أن يتخذ شهداء، ويريد أن يمحص عباده المؤمنين، فهو يحب أن يعبد بأنواع من العبادات لا تقع إلا في مثل هذه الأحوال، قال سبحانه وتعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج:9].