قال تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ} [هود:81]، فقد اختلف العلماء في هذا الاستثناء، هل هو راجع إلى الالتفات وأن المعنى: أن امرأتك ستلتفت حين تسمع عذاب قومها أو لا؟ فقال بعضهم: إنها خرجت، ولكن عندما سمعت الوجبة وصوت العذاب الذي نزل بقومها التفتت وقالت: واقوماه! فهي ما زالت محبة لقومها إلى آخر لحظة، فأصابها حجر فقتلها، هذا قول.
والقول الآخر -وهو الصحيح الذي يدل عليه القرآن-: أنها لم تخرج أصلاً، وأن الاستثناء في قوله: ((إِلَّا امْرَأَتَكَ))، معناه: لا تسر بها، فأسر بأهلك واخرج بهم ليلاً إلا امرأتك لا تخرج معك، ويدل على ذلك قوله عز وجل: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:35]، فلم يخرج منها إلا المؤمنون، وهي لم تكن مؤمنة، {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:36]، فكان البيت مسلماً لكنها كانت خائنة، فكانت تظهر شيئاً للوط وهي على دين قومها، فلم تخرج؛ لأن الله قال: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:35]، ويدل عليه قوله عز وجل: {إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} [الشعراء:171]، أي: أنها بقيت ولم تخرج، وكذا قوله في هذه الآية: {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} [هود:81]، وهذا يستلزم أن يكون مما أصابها أنها رفعت، ثم أهوي بها إلى الأرض، قال تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:53] فالله عز وجل جعل من عذابهم أنهم يهوون من السماء الدنيا إلى الأرض، وهذا أشد في الرعب والهلاك من حجارة تصيبهم فقط، وذكر الله عدة عقوبات، هي: طمس الأعين لمن باشروا محاولة الاقتحام لبيت لوط، وذكر القلب فقال: ((جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا))، وذكر الحاصب فقال: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود:82].
فقوله: {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} [هود:81]، يلزم منه أن يصيبها على الأقل ما يصيب عامة قومها، وهو: الرفع إلى السماء ثم الهوي إلى الأرض، وأن تصيبها كذلك الحجارة.
ومن قال: إنها خرجت، فقد قال: إنه أصابها الحجارة فقط، والصحيح الأول، وهو أنها لم تخرج؛ لأنها ليست مؤمنة والعياذ بالله! وذلك يدل على أن القرابة لا تنفع إذا لم يكن هناك إيمان، ولابد من المفارقة والعداوة للكفرة والبراء منهم ولو كانوا من أقرب المقربين.
قال سبحانه: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} [هود:81]، وكأن لوطاً استعجل أكثر من ذلك، فقالوا له: {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81].
قال تعالى: ((فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا))، أي: عند شروق الشمس بعد رحيل لوط عليه السلام وبناته، ويقال: بنتيه، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [هود:82]، فاقتلع جبريل عليه السلام -فيما يذكرون- هذه القرى بسكانها ومن فيها وبيوتها، ورفعهم حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، وصياح ديوكهم، ثم أهوى بها إلى الأرض مقلوبة منكوسة، كما قال تعالى: ((جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا)) وقال تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:53]؛ لأنهم -والعياذ بالله- اختلقوا هذا الذنب، ولم يسبقهم إليه أحد من العالمين.
قال سبحانه: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود:82] أي: من طين قد تصلب وصار شديد التصلب، منضوداً معداً لذلك، أو متتابعاً كثيراً، والتتابع أظهر، والله أعلم.
قال تعالى: {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} [هود:83] أي: معلمة عند الله عز وجل، فكل حجر لشخص معين، يقال: إن كل حجر كان عليه اسم الذي يصيبه.
قال عز وجل: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83]، فليست هذه العقوبة خاصة بقوم لوط، بل يمكن أن تصيب غيرهم، كما جاء أنه يكون في آخر هذه الأمة قذف ومسخ وخسف بمن يفعلون الفواحش، فيقذفون بالحجارة، ويمسخون قردة وخنازير، وغير ذلك من الصفات القبيحة، وأشدها مسخ القلوب، وخسف بالزلازل التي تدفنهم في الأرض والعياذ بالله.