ولوط عليه السلام كان يدافعهم على الباب، وهم يريدون الاقتحام والرسل بالداخل، وهو إلى تلك اللحظة لا يعلم أنهم ملائكة الله، قال سبحانه وتعالى عنه: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، فهو حال شديد كان يعانيه لوط عليه السلام، فهو يقول: ((لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً)) أي: لفعلت بكم وفعلت، ولدفعتكم أشد الدفع، ((أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ)) أي: إلى قرابة يحمونني، فليس له منهم قرابة كما ذكرنا؛ لأنه كان من قوم إبراهيم، فهو ابن أخي إبراهيم وغريب عليهم، أما امرأته التي تزوجها منهم فقد كانت عدوة له، وموالية لقومها ضده، فلم يكن يأوي إلى قرابة، ولم يستحضر لوط عليه السلام في تلك اللحظة أنه كان يأوي إلى الله عز وجل، ولقد كان ذلك في قلبه، لكنه عنى القرابة، وذهب ذهنه إليها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أخي لوطاً، لقد كان يأوي إلى ركن شديد).
فهو فعلاً كان يأوي إلى ركن شديد، ولكنه عتب عليه في هذه الكلمة، وهو لم يترك التوكل، ولم يكن نسي أنه يأوي إلى الله عز وجل ويعتمد بقلبه عليه، ولكنها لحظة تذكر فيها الأسباب، ويذكر انعدامها عنده، فعتب عليه فيها، وذلك في حق الأنبياء درجة من درجات النقص عن الكمال، فيعاتبون عليه؛ لعلو مرتبتهم ومنزلتهم العظيمة، وهذا من جنس حسنات الأبرار وسيئات المقربين، فالواحد منا لو طرأ على قلبه مثل ذلك ما لامه أحد، ولكن العتب على الأنبياء لأجل ارتفاع منزلتهم العظيمة، وهي ليست ذنوباً في حق عموم الناس، ولكنها في حق الأنبياء نقصان عن الكمال، فاستغفر له النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له بالرحمة فقال: (رحم الله أخي لوطاً، لقد كان يأوي إلى ركن شديد)، وهو الله عز وجل، فكان الأفضل أن يستحضر في مثل هذه اللحظات توكله الكامل على الله عز وجل، كمن هو أعلى منه قدراً من أنبياء الله، كموسى صلى الله عليه وسلم الذي قال له أصحابه: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62]، ففي لحظات الشدة الشديدة جداً يجب أن يقع في القلب أول وهلة ما يدل على عظيم التوكل أو أنه أقل درجة من ذلك، فموسى عليه السلام عندما تراءى الجمعان، ووصل إليهم جنود فرعون عند شروق الشمس، وتأكد أصحابه أنهم قد أدركوا، وأقسموا على ذلك، وقالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، وأكدوا بإن وبالقسم، قال: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، فاستحضر معية الله عز وجل، وهكذا فعل من هو أعلى منه قدراً، وهو إبراهيم عليه السلام، فإنه لما ألقي في النار جعل يقول: ((حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)).
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: ((حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ))، قالها إبراهيم حين ألقي في النار.
فهو ألقي في النار ولم يلتفت إلى الأسباب، بأن تأتي ريح مثلاً أو يأتي مطر فيطفئها، وإنما قال: حسبنا الله -أي: كافينا الله- ونعم الوكيل.
قال ابن عباس: وقالها النبي صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173].
وأعلى منهم قدراً النبي عليه الصلاة والسلام حين وصل الكفار إلى فم الغار، فقال له أبو بكر: يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لأبصرنا، فقد كان خائفاً جداً على النبي عليه الصلاة والسلام، والأسباب ظاهرة جداً في هذا، وكان أبو بكر أحسن حالاً من أصحاب موسى، إذ أكدوا أنهم مدركون، ولكن أبا بكر رضي الله عنه قال: لو نظر أحدهم، فعلق ذلك بقوله: (لو) فإنه يحتمل ألا ينظر أحدهم، أما النبي عليه الصلاة والسلام فكان في شأن آخر، فقال لصاحبه كما قال الله عز وجل حاكياً عنه: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، فلم يستحضر ضعفه أو عجزه بالنسبة إلى قوتهم، وقلته بالنسبة إلى كثرتهم، بل استحضر معية الله عز وجل فقال: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] فكانت العاقبة: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة:40].
وذكر غير واحد من السلف: أن الملائكة عتبوا على لوط قوله: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، وعند ذلك بينوا حقيقة أمرهم: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود:81]، وكل هذا لأنهم أرادوا لوطاً عليه السلام نفسه بالأذى، وأرادوا أن يصلوا إليه هو، وليس فقط إلى الأضياف، وقد ذكر غير واحد من السلف من المفسرين: أن جبريل عليه السلام خرج إليهم وهم وقوف بالباب، ولوط يدافعهم، وقد عجز أن يدفعهم، وكاد الباب أن يدفعهم، وكادوا أن يدخلوا، فخرج عليهم جبريل فضربهم بطرف جناحه، وجبريل عليه السلام له ستمائة جناح، وكل جناح منها قد سد الأفق فهو ذو خلق عظيم، فضرب وجوههم بجناحه، فطمس أعينهم، كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر:37]، فكان هؤلاء الذين أرادوا مباشرة الفاحشة أشد عقاباً، وقد عوقبوا بعقوبتين: طمست أعينهم، ويقال: إنها ذهبت بالكلية ويقال: ذهب ضوءها، وعوقبوا في الصباح بعقوبة قومهم، وهي ما ذكر الله سبحانه وتعالى من أنه جعل عاليها سافلها وأمطر عليهم حجارة من سجيل.