فمما ذكر في هذه القصة ولم يذكر في غيرها: أن هؤلاء القوم -والعياذ بالله- كانوا أول من أتى الذكران من العالمين، وأول من أتى هذه الفاحشة الفظيعة، ولم يسبقهم بها أحد من العالمين، فلم يذكر الله سبحانه وتعالى عنهم عبادة الأوثان، وإن كان يمكن أن تكون عبادة الأوثان موجودة فيهم، ولكنه سبحانه وتعالى إنما ذكر عنهم فعل هذه الفاحشة، ولا شك أن هذا أمر يلفت انتباهنا، فإن فعل الفواحش المبنية على الاستجابة للشهوات غالباً ما تكون في حيز المعاصي، والمعاصي صغائر وكبائر، وهذه الفاحشة بلا شك أنها من الكبائر.
لكن الذي ذكره الله عز وجل هو كفرهم وعقابهم على الكفر، وعذابهم المؤبد في النار والعياذ بالله، وهذا يدفعنا إلى أن نفكر في السبب الذي كفروا به، مع أنه لم يذكر عنهم عبادة الأوثان، أو عبادة الملائكة أو الصالحين كما هو في كثير من الأمم، فإن أول شرك وقع على ظهر الأرض كان بسبب الغلو في الصالحين وعبادتهم بعد موتهم، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23] قال: هؤلاء أناس صالحون كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا أوحى الشيطان إلى أتباعهم أن اعمدوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها فانصبوا فيها تماثيل وسموها بأسمائهم، ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت.
أما هؤلاء القوم فشركهم من نوع آخر والعياذ بالله فهو من جنس شرك إبليس، وهو رد شرع الله سبحانه وتعالى، والاستهزاء بمن يأمرهم ويدعوهم إلى الالتزام بشرع الله، ولم يكن شركهم وكفرهم إلا استجابة لداعي الشهوات.
ويحتمل أن يكون معه أنواع أخرى من الشرك، لكن الذي ذكر عنهم: أنهم كانوا يردون شرع الله عز وجل، وإبليس كان كفره كذلك، فلم يكن كفر إبليس بأن جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، أو أنه سمى الأوثان آلهة وعبدها، -وإن كان يدعو إلى ذلك- بل كان أول كفره والعياذ بالله رد أمر الله وشرعه سبحانه وتعالى، والإباء والرفض لأوامر الله، كما قال تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، فكفرهم كان بالإباء، والاستكبار عن شرع الله عز وجل.
وهذا الشرك من أعظم أنواع الشرك وقوعاً، وخصوصاً في آخر الزمان، ففي واقع حياة الناس اليوم يرد كثير منهم شرع الله عز وجل، ويأبون الانقياد له.
وزوال الانقياد من القلب -وإن كان استجابة للشهوات في أول الأمر- يختلف اختلافاً كبيراً عن الاستجابة للشهوة دون زوال الانقياد، فالذي يعمل المعصية وهو يعلم أنها معصية يختلف عن الذي يرد شرع الله، ويأبى ويستكبر ويستهزئ بدين الله سبحانه وتعالى.
وأكثر منبع للفتن في آخر الزمان الشهوات، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويسمي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)، والعياذ بالله، فيتبين لنا من حديث النبي عليه الصلاة والسلام أن الكفر قد يكون ببيع الدين؛ لأجل عرض الدنيا؛ ولأجل الشهوات.
وهذا عند التأمل نجده منتشراً في أجزاء العالم كله، فنجد عبادة الشهوات وعبادة المال، وعبادة الدرهم والدينار والقطيفة والخميصة والملك والرياسة والصور، وذلك الصوت الذي يقود به إبليس قطعاناً وجماعات هائلة تعد بالملايين من البشر إلى الكفر والعياذ بالله، فيستهزئون بدين الله سبحانه، ويأبون الانقياد، ويرون أنفسهم أحراراً فيما يفعلون، ويرون الحرية التي ينادون بها تشمل فعل كل ما يشتهون دون التزام بشيء من شرع الله سبحانه وتعالى، أو التزام بأوامر رسله عليهم الصلاة والسلام، فشرك الإباء والاستكبار والرد لدين الله والعياذ بالله من أخطر أنواع الشرك والكفر.