من كان يعتقد وجوب شرع الله سبحانه وتعالى في كل الأمور، وفي نفس الوقت هو ملتزم بشرع الله سبحانه وتعالى، ولا يبدل الشرع، ولكنه يخالفه، وهو يعلم أنه منتسب إليه كذباً، كأن يقول مثلاً: إن الشهود في هذه القضية ليسوا عدولاً، أو الشهود لم يبلغوا أربعة، وهو يعلم أنهم أربعة، لكنه يزور في الأوراق مثلاً، أو القاضي الظالم يقول: لم يشهدوا وهم قد شهدوا عنده، ولكنه في التطبيق على الواقع يخالف الحقيقة، مثل إنسان يقول: هذا الإنسان يستحق القتل، لأنه مفسد في الأرض مثلاً، وقد قال الله عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة:33]، ويكون هو المفسد في الأرض، فقد أفسد في العقيدة وطبق هذه الآية على غيره، كأن يقول: هذا فلان سوف نقطع يده لأنه سرق، وهو الذي سرق، أو ليس هذا الذي سرق ولكنه يقطع يده، فهذا لو حكم ألف حكم من هذا النوع لم يكن كافراً كفراً أكبر، بل كان كافراً كفراً أصغر لأنه ملتزم بالشرع، فهو لم يقل: أنا أقطع يد هذا لأني أرى ذلك، أو لأن فلاناً قد شرع ذلك، وإنما كأن يقول مثلاً: نقطع لسان هذا أو يد هذا؛ لأنه لامس أجنبية، أو لأنه امتدت يده إلى ما لا يجوز مثلاً، أو صنع أي شيء.
ومع أنه عندما يقرر أن الكلام هذا ليس منسوباً للشرع، فهو يقرر أن أحداً دون الله له حق في التشريع والتحاكم إليه والعياذ بالله، فهذا هو الشرك الأكبر.
أما أن ينسب ما يفعله إلى الشرع كذباً وزوراً، فهذا كفر أصغر، وليس هذا عبرة بالقلة أو الكثرة وعدد ما حكم به من الأحكام أو بنسبتها إلى ما يحكم به.
فمن سجد لله ألف سجدة، وسجد للصنم سجدة واحدة صار مشركاً، فكذلك من رأى أن شرع الله ملزم في ألف حكم، وغير ملزم في حكم واحد، فيسع الناس أن يخرجوا عن شرع الله الذي ألزمهم به، ويعلم أن الرسول أوجب ذلك، ولكن يتركه إعراضاً عنه وإيثاراً لحكم الجاهلية عليه، ويصوب ذلك، ويرى أن هذا الأمر هو الحق، فيلزم به جميع الخلق؛ كان ذلك أيضاً شركاً أكبر.
أما الذي يرتشي في كل القضايا، فلا يكفر، والقاتل عمداً عليه القصاص أو الدية، فمن زور صلحاً يرغم به أهل القتيل على الصلح، ويقول: تم الصلح بناءً على جلسة فلانية بين أهل القتيل والقاتل، وهذا لم يحصل لكنه هو الذي أكرههم، أو يقول: ثبت أن هذا القتل خطأ وهو يعرف أنه عمد، من أجل أن يفرض عليهم الدية ويسقط القصاص، فهذا كفره كفر أصغر.
وهذا الذي يقع من حكام المسلمين الظلمة عبر التاريخ، فـ الحجاج بن يوسف الثقفي لم يكن يحكم دون حكم الله عز وجل، لكن كان ينسب قتل الحسين بن علي -حفيد الرسول صلى الله عليه وسلم- إلى الشريعة، فيحتج بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أتاكم وأمركم جميعاً على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم، فاضربوا عنقه بالسيف كائناً من كان)، فهو يزعم أن قتل الحسين موافق لكلام النبي عليه الصلاة والسلام، بخلاف من قال: أنا أقتله من أجل أنه خالفني، أو لأجل أن القانون يقتضي قتل هذا الإنسان مثلاً.
والذي يقول مثلاً: هذا الزاني يحبس ستة أشهر؛ لأنه زنى بامرأة فلان، أو دفعت له رشوة في هذه القضية، فيقول: هذا الرجل لم يزن؛ لأن الشهود، لم يقروا بذلك، أو ثبت أنه كان في حجرة النوم مثلاً، فهو يستحق التعزير أو الحبس ستة أشهر.
فهناك فرق بين أن يثبت أن فلاناً زنى فلا يحكم عليه بالرجم، أو الجلد الذي شرعه الله، ولكن يحكم عليه بخلاف ذلك، وبين الذي يثبت الحدود الشرعية ولكنه لا يطبقها.
فهذا الفرق غفل عنه الكثيرون جداً، وظنوا أن هذا الباب ليس من التوحيد، وأنه نوع من المعصية فقط، والآيات صريحة جداً، وكلام أهل العلم صريح جداً في ذلك، كما نقله غير واحد من العلماء، ومن أحسن ما ذكر في ذلك كلام الشيخ الشنقيطي رحمه الله.
والنوع الثالث من الأحكام التي ليس لله عز وجل فيها شريك، والحكم الجزائي يوم القيامة هو في الحقيقة اجتماع الحكم الشرعي مع الحكم الكوني القدري، فإن الله سبحانه وتعالى أنزل في كتبه المقدرة على رسله أن الجنة والثواب والإكرام والإعزاز للمؤمنين، وأن النار والإهانة والذلة والعذاب للكافرين، فيحاسب الله الناس يوم القيامة على ما شرعه لهم.
وبذلك كانت الشفاعة ملكاً له عز وجل، ليست الشفاعة ملكاً للرسول صلى الله عليه وسلم ولا للأنبياء ولا للملائكة، بل لا يشفعون إلا بإذن الله، ولمن ارتضى الله سبحانه وتعالى، فالحكم الجزائي له وحده، ولذلك لا يدخل أهل الجنة الجنة إلا بإذنه، قال تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم:23]، ولا يخرج أهل النار منها إلا بإذنه سبحانه وتعالى، وذلك يظهر جداً في مقام الشفاعة الكبرى للنبي صلى الله عليه وسلم، فيقيمه الله ويبعثه المقام المحمود؛ فيسجد تحت العرش، ويظل يثني على ربه عز وجل بأنواع الحمد والثناء والمحامد التي لم يحمده بها أحد قبله، حتى يقال له: (يا محمد! ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع)، فعند ذلك يأذن الله له بالشفاعة، ليعلم الجميع أن الشفاعة لله عز وجل، وأنه لا شفيع من دونه بل بأمره، قال تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام:51].