يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن القرآن أشار في هذه القصة وهذه الطريقة إلى ما ينبغي في مسائل الخلاف، فالذي ينبغي في مسائل الخلاف استيعاب الأقوال المذكورة، وتبيين الثابت منها، وإقرار الحق، وبيان فائدة الخلاف وثمرته إن كان له فائدة، وختم ذلك بتفويض العلم إلى الله سبحانه وتعالى، فهذا من أعظم وأهم ما دل عليه القرآن فيما ينبغي أن يكون في مسائل الخلاف.
وكثير من الناس يهمل في مثل هذا المقام أشياء مما ذكرنا، فمنهم من لا يستوعب الأقوال المذكورة، فيكون قد قصر في إزالة الشبهة عن بعض الناس؛ لأنه يحتمل ألا يكون قد اطلع على القول الذي لم يذكره، فكيف يرجح أو يبطل قولاً هو لم يطلع عليه، فلذلك كثير من الناس إذا ذكر قولاً وفي المسألة أقوال يتضح للسامع أو القارئ أن المتكلم أو الكاتب ليس عنده من العلم ما يجعله يستوعب المسألة.
وقد يذكر كثير من الناس الأقوال دون إشارة إلى ضعيفها من صحيحها، ولا يبين من أين يؤخذ القول الصحيح، ومجرد حكاية الأقوال دون إشارة إلى الراجح والمرجوح تضييع للوقت، وإشغال للعقل من غير ما فائدة، وماذا يستفيد من حكيت له الأقوال المختلفة في مسألة واحدة، وهي متناقضة متضادة، وما رجحت له وما شفيت غليل قلبه؟! ولذلك لا يصح الاعتماد على الكتب التي تحكي الأقوال مجردة بلا دليل وبلا ترجيح.
وقد وجد في كتب الفقه من يستخدم الطريقتين، فمنهم من لا يذكر مسائل الخلاف وإنما يذكر قولاً واحداً هو مذهبه الذي يعتقده ولا يشير إلى غيره، ومن الكتب ما يجمع المذاهب المتعددة ويجعلها أمام القارئ، وكذا من يعلم طلاب العلم يذكر لهم الأقوال المتعددة، وربما بعض المفتين يفعل ذلك جرأة على الفتوى بغير حق، وذلك أنه يعرض على المستفتي فلان قال كذا وفلان قال كذا، ويتركه ينتقي بنفسه، وهذا من أعظم أسباب الانحراف، ومن تمليك العوام زمام الفتوى الذي ليس لهم منه نصيب، وليس لهم أدواته ولا العلم به، والصحيح أن سبب ذلك هو التقليد الأعمى، وجعل أقوال المشايخ والأئمة بمنزلة الدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا تقصير، فلابد أن يشير إلى الراجح والمرجوح.