الظاهر أن العزلة كانت في حق أصحاب الكهف واجبة، {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الكهف:16]، وهم قد ضحوا تضحية عظيمة حين لجئوا إلى الكهف، وآووا إليه؛ لأن معيشة أبناء الملوك والأغنياء -وقد كانوا مرفهين في مدينتهم- في كهف غير مهيأ أو معد فيه موضع منام أو مطعم أو مشرب أو غطاء أو كساء شبه مستحيلة، فسبحان الله! كيف ضحوا في سبيل الله سبحانه وتعالى ببيوتهم ووطنهم، وتحملوا مفارقة الأحباب والأهل والأصحاب لله عز وجل، ورجوا أعظم ما يرجى: {يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الكهف:16]، وذلك أنهم لما تركوا لله، وعظموا رجاءهم بأن الله يعوضهم خيراً مما تركوه لأجله، أعطاهم الله خيراً منه ونشر لهم من رحمته، ووسع الله سبحانه وتعالى عليهم، وكتب لهم رحمته في الدنيا والآخرة.
{وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف:16] أي: أمراً ترتفقون به، وشيئاً من الرفق واليسر، فالذي يترك شيئاً لله يظن الناس أنه عسر فليبشر باليسر؛ {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5].
{فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف:16]، والكهف ضيق مظلم فيه شدة، ومع ذلك رجوا فيه الرحمة والرفق من الله سبحانه وتعالى.
وفي قولهم: {رَبُّكُمْ} [الكهف:16] إضافة الرب إلى ضمير المخاطبين، وفي هذا دلالة على أنه يختصهم برحمته، ويحفظهم سبحانه وتعالى بحفظ ليس لغيرهم، لكمال إيمانهم بالله عز وجل حين ضحوا في سبيله سبحانه وتعالى.