أيضاً نلحظ في هذا الجزء من القصة أن الناس من عادتهم الغلو في الصالحين، فإن هؤلاء كانوا يقولون: الغلام يشفي، فلا بد أن ينتبه الداعية إلى الله إلى تحرير الناس من هذا الغلو فيه وفي غيره؛ فإن سبب البلاء الذي دخل على كثير من الأمم هو الغلو في الصالحين، وقد يكونون صالحين بالفعل؛ ولكن بسبب الغلو وعدم التحذير منه من الصالحين أنفسهم يحصل ذلك الفساد.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذر من الغلو فيه، فيقول: (إياكم والغلو!) ويقول: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله).
وأهل العلم حذروا من تقليدهم، ومن الغلو فيهم، فلا بد أن يعالج الداعي إلى الله عز وجل هذا المرض قبل أن يصل بعض الناس إلى حد تأليه الصالحين وعبادتهم من دون الله، فهذا الغلام قبل أن يقول أي كلمة قال: (إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى)، فبدأ بتقرير التوحيد ومحاربة الغلو، وبيان حقيقة عبوديته لله سبحانه وتعالى، ولذا قال: (فإن آمنت بالله دعوت الله لك فشفاك)، أي: أنا أطلب من الله، فأنا عبد سائل ولست أنا الذي أفعل.
ولا يروج على الداعية أن يظن أنه يمكنه أن يستغل غلو الناس فيه في دعوتهم إلى الالتزام بالحق الذي يقوله لهم؛ لأنهم إن قبلوا الحق لأجله هو لا لأنه الحق لم ينفعهم ذلك، ويوشك أن يتحولوا عنه إلى الباطل بمجرد غيابه هو عنهم، فالحقيقة أنهم عبدوه هو ولم يعبدوا الله، والواجب أن يعبدهم لله وحده.
وتأمل عظم موقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين مات النبي صلى الله عليه وسلم فقام في الناس فقال: (من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت)، وبهذا حفظ الله الإسلام واستمرت دعوة التوحيد.
فـ أبو بكر رضي الله عنه لما قال: (من كان يعبد محمداً) لم يوجد أحد يقول: نحن نعبد محمداً، ولكن لأجل أن الناس تصوروا أنه يمكن أن تذل أو تضمحل دعوة الحق بغير الرسول صلى الله عليه وسلم، فسمى أبو بكر من يظن ذلك عابداً للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات)، يعني: لا يعلق أحد التزامه بالدين على حياة النبي عليه الصلاة والسلام، بل لا بد أن تلتزموا في حياته وبعد وفاته بهذا الدين الذي جاء به؛ وهو عبادة الله وحده لا شريك له، مع أنه لا يوجد من يحب النبي صلى الله عليه وسلم مثل أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، لكنه كان يؤمن بدعوة التوحيد، ويعبد الله وحده لا شريك له.