إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: قال النبي صلى الله عليه وسلم في تكملة قصة الغلام مع الراهب: (فأتى الراهب فأخبره، فقال: أي بني! أنت اليوم أفضل مني، وقد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي).
هذا الراهب المخلص لله عز وجل المربي الفاضل بسلوكه قبل قوله -رحمه الله تعالى وغفر له! - نرى في قصته قدوة لكل مربٍ وداعية وأستاذ.
فلقد علم هذا الراهب أن الغلام قد صار من أولياء الله الصالحين رغم أنه تعلم على يديه، وأنه أصغر منه سناً، ورغم أن الراهب أسبق منه التزاماً بالطاعة، وعمره في الطاعة أضعاف عمر الغلام، ومع ذلك أدرك أنه سبقه إلى الله عز وجل بكمال الصدق والإخلاص والمحبة لله سبحانه وتعالى، فأعمال القلوب هي التي يسير بها السابقون إلى الله عز وجل، فيسبقون غيرهم ممن تقدمهم في العمر، أو كان أكثر منهم عبادة لله، أو أكثر علماً، بل ربما يكون أحدهم أستاذاً لهؤلاء الصالحين، ومع ذلك يسبقونهم إلى الله عز وجل، لما جعله الله سبحانه وتعالى في قلوبهم من محبته، ورجائه، وتعظيمه، وتعظيم شرعه، واللجوء إليه، وغير ذلك من أنواع العبادات القلبية.
فلم يتكبر هذا الراهب ولم يحقد ولم يمن، ولم يقل: كيف يكون تلميذي أسبق مني؟ وكيف يرفع فوقي؟ وإنما قال له: (أي بني! أنت اليوم أفضل مني)، فلم ينظر إلى سبقه وطول عبادته، ولا نظر إلى سنه وصغر سن الغلام، ولا إلى أنه الأستاذ والغلام التلميذ، ولا وقع في نفسه خطيئة إبليس حين قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف:12] التي هي أصل أخطر أمراض القلوب، ومن أعظم أسباب الكفر والعناد، والعياذ بالله! ونرى هنا أيضاً أن السبق إلى الله تعالى لا يرتبط بالسن وطول زمن العمل أو كثرته، أو سبق الالتزام؛ بقدر ما يرتبط بحال القلب وسلامته، وما يقوم به من العبودية لله تعالى: من الحب والإخلاص والخوف والرجاء والشوق إليه، وصدق اليقين والتوكل، وغيرها من عبادات القلب.
وهذه أمة الإسلام أقصر أعماراً وأضعف أجساماً من الأمم السابقة، وهي أفضل الأمم عند الله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).
وفي قوله: (أي بني) تلطف وتحبب إلى ذلك الغلام، وذلك مع اعترافه له بالفضل، وذلك أنه ظهر منه نفع عام للناس، ولا شك أن النفع العام مقدم على النفع الخاص.
فهو له في العبادة سنون ومع ذلك ما استطاع أن يؤثر في أحد من أهل بلده إلا هذا الغلام، وهذا الغلام نفع الناس جميعاً في موقف واحد، وهذه مقدمة في أن ينفعهم فيما هو أعظم وأهم وهو إصلاح قلوبهم، وذلك بعد أن ساهم في إصلاح دنياهم بقتل الدابة، فهو لا شك سوف يقتل الطاغوت في قلوبهم أيضاً، وسيسعى إلى أن يمضوا في طريقهم إلى الله عز وجل كما مضوا في مصالحهم الدنيوية، وذلك حال كل ناصح شفيق.
كما أن علامات الولاية ظهرت في إجابة الدعوة، وفي خرق العادة له بقتل هذه الدابة حين دعا الله عز وجل.
وفي إخبار الغلام له إشعار بمدى الفرح الذي حصل للغلام بإجابة دعوته، فذهب يبشر ذلك الراهب لأن أمره أحب إلى الله سبحانه وتعالى، ولم يذهب ليخبر ذلك الساحر مثلاً ويقول له: قد ظهر كذا وكذا، وإنما ذهب ليبشر الراهب؛ فكان الجواب الطيب اللطيف: (أي بني! أنت اليوم أفضل مني).