قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فرماها فقتلها ومضى الناس)، وهذا الأمر معدود في كرامات الأولياء، غلام صغير صار من أولياء الله الصالحين، وأظهر الله على يديه هذه الكرامة الخارقة للعادة، وذلك من أنواع القدرة والتأثيرات، ونحن نؤمن بإثبات كرامات الأولياء من أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تفصيله أنواع الكرامة التي يمكن أن تقع، وخوارق العادات التي تقع لأولياء الله، وعلامتهم وصفتهم أنهم كما قال الله فيهم: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63]، ولذلك يشترط صلاح الظاهر والباطن حتى ينسب الذي جرى على يديه إلى الولاية، وإلا لو رأينا الرجل يطير في الهواء أو يسير على الماء ثم رأيناه يصادم الكتاب والسنة فلا نصدقه.
والخوارق أنواع منها: المعجزات التي يجريها الله على أيدي أنبيائه، ومنها الكرامات التي تجري على أيدي أوليائه، ومنها خوارق العادات التي يقدر الله وقوعها على أيدي السحرة والكهنة إخوان الشياطين؛ ابتلاء للعباد، وإنما تعرف بحقيقة صفاتهم، كما قال عز وجل: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:221 - 224]، فنحن نعرفهم من نتائج عملهم، ومن صفاتهم، فإنه لا يجتنى العنب من شجر الشوك، فالشوك لا يجتنى منه إلا الشوك، والعنب لا يجتنى إلا من شجر العنب، كما هي حكمة نقلت عن المسيح عليه الصلاة والسلام في كيفية معرفة أدعياء النبوة الكاذبين، فآثارهم تنبؤك كيف يكون حالهم.
ولذلك نقول: التفرقة بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان أساسه في صفات هذا الإنسان، وهذا أظهر لدى أهل الإيمان من التفرقة بنوعية الخارق، وإن كانت نوعية الخارق تفرق، فإن سحرة فرعون مع أنهم لم يكونوا من أهل الإيمان، ولم يحسنوا أن ينظروا في صفات موسى عليه الصلاة والسلام وصفات أنفسهم، وإنما الذي ردهم إلى الإيمان نوعية الخارق حيث رأوا فعلاً أن عصا موسى قد تحولت إلى حية حقيقية، إلى ثعبان مبين حقيقي، وأيقنوا أن هذا ليس في قدرتهم، وعلموا أن موسى ليس بساحر، فآمنوا من ساعتهم، فنوعية ما يعطيه الله عز وجل من خوارق للأنبياء من المعجزات لا يمكن أن يصل إليه سحر السحرة، ولا كهانة الكهنة، خلافاً لمن يقول من المتأخرين من بعض المذاهب البدائية: إن الساحر يقدر على ما يقدر عليه الأنبياء إلا أنه لا يدعي النبوة! فهذا كذب وباطل، فإن هذا يؤدي إلى الطعن في معجزات الأنبياء، فضلاً أن الله سبحانه وتعالى ما جعل السحر أبداً يقوم مقام المعجزة، فإنما المعجزة أمر لا يقدر عليه البشر، وإنما يجريه الله على أيدي أنبيائه، ويمكن أن يجري نحواً منه على أيدي الأولياء تصديقاً للأنبياء.
وإثبات الكرامات لأولياء الله من عقيدة أهل السنة، وقد غلا بعض المنتسبين إلى بعض دعوات التوحيد حتى وصل إلى إنكار الكرامات، لينفي غلو الصوفية في الأولياء، وليس الأمر كذلك، فليس التكذيب بالحق يكون دليلاً لإبطال الغلو، بل ننهى عن الغلو، ونثبت الكرامة، كما دلت على ذلك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، منها ما ورد في قصة مريم عليها السلام أنها كانت تجد فاكهة في غير وقتها كما ورد ذلك في التفسير، وفي قصة موسى عندما أوحى الله إلى أمه بأنه سوف يحفظه ويرده إليها ويجعله من المرسلين، فهذا من أنواع الإخبار والكشوف، وهي ليست نبيه عند عامة أهل العلم.
وفي السنة من حديث عبد الله بن أبي بكر: أنهم كانوا لا يرفعون لقمة من أسفلها إلا ربت من أسفلها أكثر منها.
وفي أنواع العلوم والمكاشفات ورد في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد كان فيمن كان قبلكم من الأمم محدثون، فإن يكن في أمتي فإنه عمر)، وفي البخاري أيضاً قصة خبيب بن عدي رضي الله عنه حين كان مأسوراً بمكة، ووجدته بعض بنات الحارث يوماً يأكل قطفاً من عنب بيده، وإنه لموثق بالحديد، وما بمكة من ثمره! فالأحاديث في كرامات الأولياء متواترة، وقصة أهل الكهف من الأدلة على ذلك، وأخيار هذه الأمة من الصحابة والتابعين قصصهم في ذلك كثيرة، وإن كان أعلى الكشف هو الكشف عن الحق، وأعلى أنواع التوفيق في القدرة أن يوفق الإنسان للطاعة والعبادة، وأعلى الإلهام أن يلهم الإنسان رشده.
لذلك نقول: إن كرامات الأولياء ثابتة، وهي حق، وحديثنا يدل عليها، ويمكن أن يجري شيء منها بعد الموت، وهذا ليس من فعل الولي وتدبيره وتصريفه، ولكن نعني بذلك أن الله عز وجل يحفظ بدنه مثلاً من التحلل ويحميه من أيدي الأعداء، كما في قصة عاصم رضي الله عنه حين أرسل الله الزنابير فحمت جثته، فما استطاع الأعداء أن يصلوا إليها، ثم إن السيل جاء فأخذها فلم يستطيعوا الوصول إليها، وكرامات الشهداء ببقاء أجسادهم سنين كما في قصة عبد الله بن حرام، والد جابر رضي الله تعالى عنه.
فالمقصود أن الكرامة لا تتحقق لمبتدع ضال، أو مشرك يدعو غير الله، وما يجري له من خوارق العادات كالإمساك بالثعابين، وضرب النفس بالسلاح، ودخول النار، كما هو مشهور عن أتباع الطريقة الرفاعية وغيرهم، فهو مما يفعله الشيطان بهم ليلبس أمرهم على الناس، ويكون ذريعة إلى الشرك، فمنهم من يكون تاركاً للصلاة، داعياً غير الله، صارفاً العبادات من الذبح والنذر لغير الله، وهو يزعم أن ذلك من كرامات الولي الذي يتبع طريقته، وقد اغتر بعض المعاصرين بذلك، فقال: هذه من كرامات الولي الأصلي، وهذا كلام الأستاذ سعيد حوى في (تربيتنا الروحية) فهو يقر بأن بعض هؤلاء ربما لا يصلي وفاجر في أخلاقه وسلوكه، ومع ذلك يجعلها كرامة للشيخ الرفاعي! فهذا كله من الجهل، فإن هذا لا يعتبر من أتباعه بمجرد الانتساب، فلو كان الرفاعي ولياً من أولياء الله الصالحين، فهذا المبتدع لا يكون من أتباعه؛ لأنه فاسق وفاجر وتارك للصلاة وفاعل للفواحش، فهذا كله من تلبيس الشيطان.
وليس إثبات الكرامة بعد الموت يعني أننا نطلب من الأولياء قضاء الحاجات، أو كشف الكربات، بل كما قال الله عز وجل: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة).
فالكرامة شيء يكرمهم الله به، وليس سبباً لجواز سؤالهم، وطلب قضاء الحاجات منهم بعد موتهم أو في عدم حضورهم.
ويلزم التنبيه في هذا المقام إلى أن الإلهام والكشف في حق الولي ليس بمعصوم، بل يحتمل الخطأ والصواب، فنحن نعتبر الكشف والإلهام من أنواع العلوم والمكاشفات، ولكن ليس هذا هو الكشف المعصوم، وبالتالي فهو قابل للخطأ والصواب، وكذا الإلهام، فلابد أن يعرض على الكتاب والسنة، فسيد الملهمين عمر رضي الله عنه أخطأ يوم الحديبية، وكان ما حدثته به نفسه وسوسة، وقد عمل لها أعمالاً ليكفرها، ولم يحتج عمر على أحد من الصحابة في أي مسألة بأنه محدث أو ملهم، فالإلهام والكشف والرؤى ليس حجة شرعية يصح العمل بها، لكن قد يستأنس بها، ووقوع خوارق العادات لأحد الأولياء لا يعني عصمته أو صحة كل ما يقول به، فلا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.