وأكل الطعام مسألة واقعية في حياة المسيح - عليه السّلام - وأمه الصديقة. وهي خصيصة من خصائص الأحياء الحادثين، ودليل على بشرية المسيح وأمه - أو على ناسوته بتعبيرهم اللاهوتي - فأكل الطعام تلبية لحاجة جسدية لا مراء فيها. ولا يكون إلها من يحتاج إلى الطعام ليعيش. فاللّه حي بذاته، قائم بذاته، باق بذاته، لا يحتاج، ولا يدخل إلى ذاته - سبحانه - أو يخرج منها شيء حادث كالطعام ..

ونظرا لوضوح هذا المنطق الواقعي ونصاعته التي لا يجادل فيها إنسان يعقل، فإنه يعقب عليه باستنكار موقفهم والتعجيب من انصرافهم عن ذلك المنطق البين: «انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ، ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» ..

ولقد كانت هذه الحياة البشرية الواقعية للمسيح عليه السّلام، مصدر تعب لمن أرادوا تأليهه - على الرغم من تعاليمه - فقد احتاجوا إلى كثير من الجدل والخلاف حول لاهوتية المسيح عليه السّلام وناسوتيته واستطرادا في ذلك المنطق القرآني المبين من زاوية أخرى يجيء هذا الاستنكار: «قُلْ: أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»؟

ويختار التعبير بكلمة «بما» بدل كلمة «من» في هذا الموضع قصدا. ليدرج «المخلوقات» التي تعبد كلها - بما فيها من العقلاء - في سلك واحد. لأنه يشير إلى ماهيتها المخلوقة الحادثة البعيدة عن حقيقة الألوهية.

فيدخل عيسى، ويدخل روح القدس، وتدخل مريم، كلهم في «ما» لأنهم بماهيتهم من خلق اللّه. ويلقي هذا التعبير ظله كذلك في هذا المقام فيبعد أن يكون أحد من خلق اللّه مستحقا للعبادة وهو لا يملك لهم ضرا ولا نفعا: «وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» .. الذي يسمع ويعلم ومن ثم يضر وينفع. كما أنه هو الذي يسمع دعاء عبيده وعبادتهم إياه، ويعلم ما تكنه صدورهم وما يكمن وراء الدعاء والعبادة .. فأما ما سواه فلا يسمع ولا يعلم ولا يستجيب الدعاء ..

طور بواسطة نورين ميديا © 2015