إن المعركة الحقيقية التي خاضها الإسلام ليقرر «وجوده» لم تكن هي المعركة مع الإلحاد، حتى يكون مجرد «التدين» هو ما يسعى إليه المتحمسون لهذا الدين! ولم تكن هي المعركة مع الفساد الاجتماعي أو الفساد الأخلاقي - فهذه معارك تالية لمعركة «وجود» هذا الدين! .. لقد كانت المعركة الأولى التي خاضها الإسلام ليقرر «وجوده» هي معركة «الحاكمية» وتقرير لمن تكون .. لذلك خاضها وهو في مكة. خاضها وهو ينشئ العقيدة، ولا يتعرض للنظام والشريعة. خاضها ليثبت في الضمير أن الحاكمية للّه وحده لا يدعيها لنفسه مسلم ولا يقر مدعيها على دعواه مسلم .. فلما أن رسخت هذه العقيدة في نفوس العصبة المسلمة في مكة، بسر اللّه لهم مزاولتها الواقعية في المدينة .. فلينظر المتحمسون لهذا الدين ما هم فيه وما يجب أن يكون. بعد أن يدركوا المفهوم الحقيقي لهذا الدين!
قال تعالى: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً. فَقالُوا: هذا لِلَّهِ - بِزَعْمِهِمْ - وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ. ساءَ ما يَحْكُمُونَ!» ..
يقرر السياق - وهو يصف تصورات الجاهلية وتقاليدها في الحرث والأنعام - أن اللّه هو الذي أنشأ لهم هذه الزروع والأنعام فما من أحد غير اللّه يرزق الناس من الأرض والسماء .. ثم يذكر بعد هذا التقرير ما يفعلونه بما رزقهم. إذ يجعلون له منه سبحانه جزءا، ويجعلون لأوثانهم وأصنامهم جزءا (وطبيعى أن سدنة الأوثان هم الذين ينتهي إليهم هذا الجزء الأخير!).ثم هم بعد ذلك يجورون على الجزء الذي جعلوه للّه. على النحو الذي تقرره الآية! عن ابن عباس قال: كانوا إذا أدخلوا الطعام فجعلوه حزما، جعلوا منه للّه سهما وسهما لآلهتهم. وكانت إذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لآلهتهم إلى الذي جعلوه للّه، ردوه إلى الذي جعلوه لآلهتهم. وإذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه للّه إلى الذي جعلوه لآلهتهم، أقروه ولم يردوه. فذلك قوله: «ساءَ ما يَحْكُمُونَ».
وعن مجاهد قال: يسمون للّه جزءا من الحرث، ولشركائهم وأوثانهم جزءا. فما ذهبت به الريح مما سموا للّه إلى جزء أوثانهم تركوه. وما ذهب من جزء أوثانهم إلى جزء اللّه ردوه. وقالوا: «اللّه عن هذا غني»! والأنعام: السائبة والبحيرة التي سموا.