هنا يقع التماس، وتنطلق الشرارة، ويتم الاتصال بين الفطرة الصادقة واللّه الحق، ويغمر النور القلب ويفيض على الكون الظاهر وعلى العقل والوعي .. هنا يجد إبراهيم إلهه .. يجده في وعيه وإدراكه كما هو في فطرته وضميره .. هنا يقع التطابق بين الإحساس الفطري المكنون والتصور العقلي الواضح ..
وهنا يجد إبراهيم إلهه. ولكنه لا يجده في كوكب يلمح، ولا في قمر يطلع، ولا في شمس تسطع ..
ولا يجده فيما تبصر العين، ولا فيما يحسه الحس .. إنه يجده في قلبه وفطرته، وفي عقله ووعيه، وفي الوجود كله من حوله .. إنه يجده خالقا لكل ما تراه العين، ويحسه الحس، وتدركه العقول.
وعندئذ يجد في نفسه المفاصلة الكاملة بينه وبين قومه في كل ما يعبدون من آلهة زائفة ويبرأ في حسم لا مواربة فيه من وجهتهم ومنهجهم وما هم عليه من الشرك - وهم لم يكونوا يجحدون اللّه البتة، ولكنهم كانوا يشركون هذه الأرباب الزائفة - وإبراهيم يتجه إلى اللّه وحده بلا شريك: «قالَ: يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» .. فهو الاتجاه إلى فاطر السماوات والأرض. الاتجاه الحنيف الذي لا ينحرف إلى الشرك. وهي الكلمة الفاصلة، واليقين الجازم، والاتجاه الأخير .. فلا تردد بعد ذلك ولا حيرة فيما تجلى للعقل من تصور مطابق للحقيقة التي في الضمير .. (?)