إنه يغيب .. يغيب عن هذه الخلائق. فمن ذا يرعاها إذن ومن ذا يدبر أمرها .. إذا كان الرب يغيب؟! لا، إنه ليس ربا، فالرب لا يغيب! إنه منطق الفطرة البديهي القريب .. لا يستشير القضايا المنطقية والفروض الجدلية، إنما ينطلق مباشرة في يسر وجزم. لأن الكينونة البشرية كلها تنطق به في يقين عميق .. «لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ» .. فالصلة بين الفطرة وإلهها هي صلة الحب والآصرة هي آصرة القلب .. وفطرة إبراهيم «لا تحب» الآفلين، ولا تتخذ منهم إلها. إن الإله الذي تحبه الفطرة .. لا يغيب .. !
«فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ: هذا رَبِّي. فَلَمَّا أَفَلَ قالَ: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ» ..
إن التجربة تتكرر. وكأن إبراهيم لم ير القمر قط ولم يعرف أن أهله وقومه يعبدونه! فهو الليلة في نظره جديد: «قالَ: هذا رَبِّي» .. بنوره الذي ينسكب في الوجود وتفرده في السماء بنوره الحبيب .. ولكنه يغيب! .. والرب - كما يعرفه إبراهيم بفطرته وقلبه - لا يغيب! هنا يحس إبراهيم أنه في حاجة إلى العون من ربه الحق الذي يجده في ضميره وفطرته. ربه الذي يحبه، ولكنه بعد لم يجده في إدراكه ووعيه .. ويحس أنه ضال مضيع إن لم يدركه ربه بهدايته. إن لم يمد إليه يده.
ويكشف له عن طريقه: «قالَ: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ» ..
«فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ: هذا رَبِّي. هذا أَكْبَرُ. فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ: يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً، وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ».
إنها التجربة الثالثة مع أضخم الأجرام المنظورة وأشدها ضوءا وحرارة .. الشمس .. والشمس تطلع كل يوم وتغيب. ولكنها اليوم تبدو لعيني إبراهيم كأنها خلق جديد. إنه اليوم يرى الأشياء بكيانه المتطلع إلى إله يطمئن به ويطمئن إليه ويستقر على قرار ثابت بعد الحيرة المقلقة والجهد الطويل:
«قالَ: هذا رَبِّي. هذا أَكْبَرُ».ولكنها كذلك تغيب ..