قصور أحكام الفقه الإسلامي الحاضرة عن ملاحقة حاجات المجتمعات المتطورة .. إلى آخر ما يخادع به بعضهم، وينخدع به بعضهم الآخر! كلا! إن الذي يحول دون تحول هذه المجتمعات الجاهلية إلى النظام الإسلامي هو وجود الطواغيت التي تأبى أن تكون الحاكمية للّه فتأبى أن تكون الربوبية في حياة البشر والألوهية في الأرض للّه وحده.
وتخرج بذلك من الإسلام خروجا كاملا. يعد الحكم عليه من المعلوم من الدين بالضرورة .. ثم هو بعد ذلك وجود جماهير من البشر تعبد أولئك الطواغيت من دون اللّه - أي تدين لها وتخضع وتتبع - فتجعلها بذلك أربابا متفرقة معبودة مطاعة. وتخرج هذه الجماهير بهذه العبادة من التوحيد إلى الشرك .. فهذا هو أخص مدلولات الشرك في نظر الإسلام .. وبهذا وذلك تقوم الجاهلية نظاما في الأرض وتعتمد على ركائز من ضلال التصور بقدر ما تعتمد على ركائز من القوة المادية:
وصياغة أحكام الفقه لا تواجه هذه الجاهلية - إذن - بوسائل مكافئة. إنما الذي يواجهها دعوة إلى الدخول في الإسلام مرة أخرى وحركة تواجه الجاهلية بكل ركائزها ثم يكون ما يكون من شأن كل دعوة للإسلام في وجه الجاهلية. ثم يحكم اللّه بين من يسلمون للّه وبين قومهم بالحق .. وعندئذ فقط يجيء دور أحكام الفقه، التي تنشأ نشأة طبيعية في هذا الوسط الواقعي الحي، وتواجه حاجات الحياة الواقعية المتجددة في هذا المجتمع الوليد، وفق حجم هذه الحاجات يومئذ وشكلها وملابساتها، وهي أمور كلها في ضمير الغيب - كما أسلفنا - ولا يمكن التكهن بها سلفا، ولا يمكن الاشتغال بها من اليوم على سبيل الجد المناسب لطبيعة هذا الدين! إن هذا لا يعني - بحال - أن الأحكام الشرعية المنصوص عليها في الكتاب والسنة ليست قائمة الآن فعلا من الوجهة الشرعية. ولكنه يعني فقط أن المجتمع الذي شرعت هذه الأحكام له، والذي لا تطبق هذه الأحكام إلا فيه - بل الذي لا تعيش هذه الأحكام إلا به - ليس قائما الآن فعلا. ومن ثم يصبح وجودها الفعلي معلقا بقيام ذلك المجتمع .. ويبقى الالتزام بها قائما في عنق كل من يسلم من ذلك المجتمع الجاهلي ويتحرك في وجه الجاهلية لإقامة النظام الإسلامي ويتعرض لما يتعرض له من يتحرك بهذا