وأما قراءة أهل الكوفة بالتشديد فلا ينبغي أن تتجه إلى تكرار اليمين كما نقله أبو زرعة (?)، فهذا خلاف المجمع عليه من الفقهاء أن اليمين تنعقد بمرة واحدة كما في قراءة عقدتم بالتخفيف، ولا حاجة لترديدها المرة بعد المرة.
فينبغي إذن أن يكون معنى التشديد في هذا المقام هو التوكيد، وهذا التوكيد يكون بجزم القلب كما يعرف من أمارات ذلك، قال الله عزّ وجلّ: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها [النّحل: 16/ 91].
ولو سلّمنا بأن التّشديد هنا يفيد تكرار اليمين المرة بعد المرة، فإن ذلك لا يسقط وجوب الكفارة في اليمين المنعقدة إذا لم تكرر؛ إذ إن ذلك دلّت له القراءة المتواترة بالتخفيف التي يلزم قبولها عند سائر الأئمة.
كما يمكن أن يكون التشديد في هذا المقام زيادة مبنى، وهو إشارة إلى زيادة المعنى، على وفق قاعدة الأصوليين: زيادة المبنى تدلّ على زيادة المعنى، فمقتضى قراءة التخفيف عقد اليمين الذي هو قصد القلب، وتحقق النّية، وتكون دلالة قراءة التشديد في التوكيد على حصول هذا القصد جزما، وتحققه يقينا.
واختار الرازي الجصاص كذلك إعمال القراءات جميعا فنصّ على أن قراءة التخفيف (عقدتم) محمولة على إقرار اللسان بما عقده القلب، ثم أشار أن الإعمال للظاهر، وهو لفظ اللسان لا قصد القلب، وأما قراءة عَقَّدْتُمُ بالتشديد فقد أشار أنها أفادت حكما جديدا؛ وهو أنه متى أعاد اليمين على وجه التكرار لا تلزمه إلا كفارة واحدة، وأما قراءة (عاقدتم) فقد أشار إليها ولم يعلق عليها، وفيما يلي عبارة الرازي رحمه الله:
«وقد قرئ قوله تعالى: بِما عَقَّدْتُمُ على ثلاثة أوجه:
عَقَّدْتُمُ بالتشديد قد رآه جماعة، و (عقدتم) خفيفة، و (عاقدتم). فقوله تعالى:
عَقَّدْتُمُ بالتشديد كان أبو الحسن يقول: لا يحتمل إلّا عقد قول (وعقدتم) بالتخفيف يحتمل عقد القلب، وهو العزيمة والقصد إلى القول، ويحتمل عقد اليمين قولا، ومتى احتمل إحدى القراءتين