إذا استقرّ لديك اليقين على أن هذه القراءات المتواترة جميعا قد قرأ بها النّبي صلّى الله عليه وسلّم وأقرأها؛ لم يكن لك أن تتوقف في إيمانك على العلة التي أدت إلى ذلك التّعدد، ولا أن تسأل عن الضرورة التي ألجأت إليه، فهو وحي أمين، وهي إرادة الله عزّ وجلّ، وهو لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء: 21/ 23].
ولكن التسليم بربانيّة مصدر هذه القراءات في سائر وجوهها لا يتناقض مع البحث عن حكمها وأسرارها ودلالاتها، وهي التي يمكن أن يتلمسها المرء لدى دراسته لوجوه هذه القراءات ومعانيها.
والنتيجة التي ينتهي إليها كل باحث، من خلال قراءة واقع اللغة العربية قبل الإسلام، هي أن اللغة العربية كانت في حالة مخاض عسير، ولم يكن بالإمكان تصوّر ما تنجلي عنه تلك الحالة الصعبة، فقد ترسّخت العقدة القبلية لدى كثير من العرب، وحلّت محلّ الإحساس القومي، وتوزع كثير من العرب في ولاءاتهم بين الفرس والرّوم والحبشة، وظهرت فيهم تيارات محلية ضمن قوقعة الذات؛ تدعو إلى إحلال اللهجات المحلية محل اللغة العربية الشاملة، وظهرت حينئذ لهجات عربية ضالّة لا يمكن أن تلتقي على أصول واحدة إلّا مع استثناءات كثيرة تفوق الحصر وتخرج عن المنهج المطّرد.
ومما وصل إلينا من أشكال التقارب بين اللهجات العربية على سبيل المثال: كشكشة تميم، وسكسكة بكر، وشنشنة تغلب، وغمغمة قضاعة، وطمطمانية حمير، ورتة العراق، وهي كما نرى لهجات منسوبة إلى قبائل بعينها.
وثمة انحرافات لغوية أخرى لم تنسب إلى قبائل بعينها، ولكنها كانت شائعة فاشية، كالفأفأة، واللثغة، والغنّة، واللّكنة، والعقلة، والحبسة، والتّرخيم، والتّمتمة، واللفف، والارتضاخ، والرّطانة.