ولعلَّ القاضي، رحمه الله، وَهِمَ وسرى ذهنه إلى حديث آخر، والشاعر يخلق الإفك ولم أنقم على القاضي، رحمه الله، إلا إقذاعه في ذمّ ابن حزم واستجهاله له، وابن حزم أوسع دائرة من أبي بكر في العلوم وأحفظ بكثير، وقد أصاب في أشياء وأجاد، وزلق في مضايق لغيره من الأئمة والإنصاف عزيز، [سير أعلام النبلاء 20/ 202 - 203، وانظر تذكرة الحفاظ 4/ 1296 - 1297]. وقد صوَّب الحافظ، رحمه الله، رأي ابن العربي فقال في النكت 2/ 655، وابن مسدي تعقَّب هذه الحكاية بأن شيخه فيها كان متعصباً على ابن العربي (يعني فلا يقبل قوله فيه) قال الحافظ: قلت وهو تعقُّب غير مرضي، بل هو دالّ على قلة اطلاع ابن مسدي، وهو معذور, لأن أبا جعفر بن المرجي، راويها في الأصل، كان مستبعداً لصحة قول ابن العربي بل هو وأهل البلد حتى قال قائلهم. وساق الأبيات السابقة.
وعنى بأهل حمص أهل أشبيلية فلما حكاها أبو العباس النباتي لابن مسدي، على هذه الصورة، ولم يكن عنده اطلاع على حقيقة ما قاله ابن العربي فاحتاج من أجل الذبّ عن ابن العربي أن يتهم النباتي حاشا وكلَّا ما علمنا عليه من سوء بل ذلك مبلغهم من العلم.
وقد تتبعتُ طرف هذا الحديث فوجدته كما قال ابن العربي من ثلاثة عشر طريقاً عن الزهري غير طريق مالك بل أزيد، وساق تلك الطرق ثم قال فهذه طرق كثيرة غير طريق مالك عن الزهري عن أنس، رضي الله عنه، فكيف يجمل ممن له ورع أن يتهم إماماً من أئمة المسلمين بغير علم ولا اطلاع.
ولقد أطلتُ في الكلام، على هذا الحديث، وكان الغرض منه الذبّ عن أعراض هؤلاء الحفّاظ والإرشاد إلى عدم الطعن والرد بغير اطلاع، وآفة هذا كله الإطلاق في موضع التقييد.
فقول من قال من الأئمة إن هذا الحديث تفرَّد به مالك عن الزهري ليس على إطلاقه وإنما المراد بشرط الصحة.
وقول ابن العربي إنه رواه من طرق غير طريق مالك إنما المراد به في الجملة سواء صح أو لم يصح فلا اعتراض ولا تعارض.
وما أجود عبارة الترمذي في هذا فإنه قال، بعد تخريجه، لا يعرف كبير أحد رواه عن الزهري غير مالك، وكذا عبارة ابن حبان لا يصح إلا من رواية مالك عن الزهري، فهذا التقييد أولى من ذلك الإطلاق.