ولا خاطبت الأيام ملتمسه إلا بلام التوكيد، ولا عدوه إلا بلام الجحود، هذه المفاوضة إليه -أعزه الله- تفهمه أنا بلغنا أن فلانًا، أضمر سيدنا له فعلًا غدا به منتصبًا للمكايد، ومعتلا وليس موصولًا كالذي بصلة وعائد، ما ذاك إلا؛ لأن معرفتها دخلت التنكير، وقدر لها من الاحتمالات أسوأ التقدير، ونعوت صحبته تكررت، فجارز قطعها بسب ذلك التكرير ... وكان الظن أن الأشغال التي جمعت له لا تكون جمع تكسير بل جمع سلامة، وآية لا تكلف تعليما على وصول؛ لأنه في الديوان كالحرف لا يخبر به ولا عنه، والحرف ليست له علامة، وحاش الله أن يصبح معرب إحسانه مبنيا".

وتمضي الرسالة على هذا النمط من التصنع لمصطلحات النحو، وكأن الكاتب يريد أن يسلك كل ما يعرف من هذه المصطلحات في كتابه، ونعجب نحن الآن من هذا التصنع الثقيل، ولكنه كان بدعة العصور الوسطى، وإنه ليطوي في داخله مدى ما أصاب الكتابة من جمود، وتبلور في هذه العصور، فإذا الكتاب لا يعنون بأساليبهم إلا هذه العناية، التي تجعلهم يسلكون اصطلاحات العلوم في كتاباتهم، فإن تركوا ذلك فإلى الاقتباس من آي الذرك الحكيم، وتضمين الأشعار والأمثال، وهم دائمًا يوشون كلامهم بفنون البديع، وخاصة فن التورية، ومن العبث أن نبحث بعد ذلك عن شيء طريف، يمكن أن نضيفه إلى عصر المماليك، فقد كان كتابه مقلدين تقليدًا شديدًا لفن القاضي الفاضل، وما سبف أن رأينا عنده من تصنع وتعقيد، ولم يستطيعوا أن يستحدثوا من جديد، سوى أن يغرقوا إلى آذانهم في هذه الأشكال البديعية والعلمية، ومن الحق أن نلاحظ أن البديع، لم يعد يؤدي عندهم معنى التحسين في صورة طبيعية، فقد خرجوا به عن طاقته، التي كنا نألفه وأصبح عندهم تلفيفًا وتلزيقًا، فالكاتب يتصيد في رسالته تورية، أو جناسًا معكوسًا أو اصطلاحًا علميًا، ليدل على مهارته، ومما لا ريب فيه أن ذلك كان يفتن الأدباء حينئذ، وهي فتنة جعلت النثر العربي عملًا لفظيًا يعين فيه بالزخرف والتنميق، لا بالمعاني ولا ما يتصل بالمعاني من فكر دقيق، وهذا كل ما عند القوم: تصنع وتلفيق

طور بواسطة نورين ميديا © 2015