ونحن لا نشك في أن الحريري استحوذ على إعجاب معاصريه بهذه الطرفة الغريبة، كما استحوذ على هذا الإعجاب بطرفته السابقة، وهل يستطيع أحد أن يجري على هذه السنة الحريرية، فإذا هو يؤلف رسالة من حرف واحد؟

وإن نفسه ليمتد على هذا النحو الذي نجده في تلك الرسالة الشينية، وليس كل ما في هذه الرسالة من تعقيد، هو هذا الإغراب في بنائها على حرف واحد، فهناك عقد أخرى خلف هذه العقدة، لا بد أن القارئ لاحظها، ولعل في رأس هذه العقد التزامه ما لا يلزم في نهاية أسجاعه، إذ كان يتقيد غالبًا بحرفين أو أكثر، وأيضًا فإنه عنى بالجناس على جميع صوره، إذ نراه يحشد جناس الاشتقاق بكثرة، كما يحشد الجناس الناقص بوفرة، وإنه ليعدل في أثناء ذلك إلى ضروب من اللفظ الغريب، كما نرى في الكلمات التي ختم بها الرسالة: يشرخ ويحوش ويقنفش، ومعانيها على الترتيب: يعلو ويظفر ويجمع.

وأكبر الظن أننا قد تعرفنا الآن على فن الحريري، وهو فن يندمج في مذهب التصنع، وما اقترحه له أبو العلاء من عقد مختلفة، وإن الحريري ليحاول أن يأتي ببعض عقد جديدة، فإذا هو يقع على هذه الفكرة، وهي أن يبني كلمات رسالته من حرف واحد، ولكن لا تظن أن هذا هو كل ما عند الحريري، فإن رسائله لم تستوعب جميع ألوان مهارته في هذا الجانب، إنما الذي استوعب مهارته حقًا هو مقاماته.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015