هذا الزخرف قبله، ولكن الإنسان يحس عند أبي العلاء، أنه فارق طاقته القديمة من الحلية والزينة إلى طاقة جدية من الإغراب، والتعمق في تصعيب الأداء، وإنه ليلتزم ذلك دائمًا في كل ما يكتب، وهل هناك أثر نثري لأبي العلاء لم يبنه على اللفظ الغريب، وهذا الجناس المعقد، وما يطوي فيهما من التزام حرفين في روي سجعه غالبًا، ثم يأتي بعد ذلك ما يستخدمه من أمثال، وما يحشده من إشارات تاريخية، وهذا كله كان يلتزمه في آثاره، بحيث لا تكاد تخلو صحيفة من أعماله، إلا وقد انبسطت عليها عقد اللفظ الغريب، أو قل اللفظ المهجور، كما انسبطت عليها زخارف الجناس المعقد، وما يندمج في هذا الجناس من أمثال وإشارات.
وبجانب هذه العقد الدائمة التي ينمق بها فنه تنميقًا نجده يقترح عقدًا أخرى لم يكن يستعملها دائمًا، ولكنه كان يستعملها على كل حال، وقد عرضنا لها في بيان تعقيده لرسائله، ونقصد ما كان يتصنع له في كتاباته من ذكره لمصطلحات العلوم بطرق وصور مختلفة، وقد غالى في هذا الجانب في أثناء صناعته للفصول والغايات غلوًا بعيدًا، إذ نراه يحاول أن يرد كثيرًا من أفكاره إلى علل أصحاب النحو والعروض ومصطلحاتهما، كأنما أعياه التفكير المستقيم الصحيح، فهو يفزع إلى النحو والصرف، وما يتصل بهما يحاول أن يفسر آراءه، ومشاكله كقوله1:
"لا أختار شبه الظالمين، فإن الشيئين يتشابهان، فينقلهما التشابه إلى الاتفاق كإن المكسورة المشددة أشبهت الأفعال، فجاء بعدها اسمان آخرهما كالفاعل وأولهما كالمفعول، وكذلك ما قاربهما من الأدوات، لا تجعلني رب معتلا كواو يقوم، ولا مبدلًا كواو موقن تبدل من الياء، ولا أحب أن أكون زائدًا مع الاستغناء كواو جدول وعجوز، فأما واو عمرو فأعوذ بك رب الأشياء، إنما هي صورة لا جرس لها، ولا غناء مشبهها لا يحسب من النسمات".
وبين أن هذه الفقرة لا يستطيع تان يفهمها، إلا من درس النحو الاشتقاق