وكذلك كان شأن الوزير الثالث في هذا العهد، وهو الخاقاني فقد كان صبا بالسجع مغرما به، وله في ذلك نوادر كثيرة، ومنها أن عام النيل تأخر في حمل غلة إليه، فكتب له: "احتمل الغلة، وأزح العلة، ولا تجلس متودعا في الكلة"، ثم التفت إلى الكاتب، وقل له: أفي النيل بق يحتاج إلى كلل؟ فقال: إي والله وأي بق من أجله يلزم الناس الكلل نهارًا وليلًا1، ووقع في كتاب إلى بعض عماله: "الزم -وفقك الله- المنهاج، واحذر عواقب الاعوجاج، واحتمل ما أمكن من الدجاج إن شاء الله"، فحمل العامل دجاجًا كثيرًا على سبيل الهدية، فقال: هذا دجاج وفرته بركة السجع2، وكما كان يسجع الوزراء لعهد المقتدر كان يسجع الكتاب في دواوينه، وعلى رأسهم محمد بن جعفر بن ثوابة، وقد احتفظ له ياقوت بمنشور وجهه عن الخليفة إلى العمال في الأقاليم المختلفة، وهو مسجوع كله3، ويظهر أن الولاة أخذوا يقلدون هؤلاء الكتاب والوزراء، وما كان من سجعهم، فقد روى الهلال أن أبا الحسن بن نيداد -وكان يتقلد كور الأهواز- كتب إلى علي بن عيسى كتابا سجع فيه سجعا زاد فيه فكتب إليه: "عولت بنا على كلام ألفته، وخطاب سجعته، أوجب صرفك عما توليته"4، وفي هذا كله أكبر الدلالة على أن السجع عم في الكتابة الديوانية منذ عصر المقتدر، وربما كان من الأدلة على ذلك أننا نجد الخليفة القاهر، الذي ولي الخلافة بعد المقتدر يطلب إلى بعض من يقفون على أخبار بني العباس أن يصفهم، ثم يقول له: "ولا تغيب عني شيئًَا، ولا تحسن القصة، ولا تسجع فيها"5. وكأن الخليفة مل كثرة ما يقرأ من السجع الخالص، فهو يطلب كتابًا لا سجع فيه ونرى من كل ما سبق أن السجع -وهو أحد الجوانب المهمة في التصنيع، وزخرف الأساليب- أخذ يظهر من حين منذ القرن الثاني، وما يزال ينمو ويتسع استخدامه في القرن الثالث، حتى إذا وصلنا إلى عصر المقتدر أصبح عامًا بين كل الكتاب في ديوانه الخلافة، فليس هناك شيء يكتب إلا ويصاغ في أسلوب السجع، وبذلك يتكامل أحد الجانبين الأسايين في مذهب التصنيع وهما: السجع والبديع، وسنرى -عما قليل- الكتاب له جميعًا الجانب الثاني: جانب البديع والترصيع.