وأبر من هرة، وهما جميعًا يأكلان أولادهما، ولم عال الذئب أولاد الضبع إذا قتلت أو ماتت؟ ولم نامت الأرنب مفتوحة العينين؟ ولم أكل الذئب صاحبه إذا رأى به دمًا؟.. ولم زعمت أن عمر نوح أطول الأعمار مع قولك: إن جميع الأنبياء قد حذرت من الدجال، وأن الدجال إنسان؟! ".
ويحاول الجاحظ بهذه الأسئلة، وأمثالها أن يقمع مراء أحمد بن عبد الوهاب ويظهر جهله وتمويهه، وهو يخرجها هذا الإخراج الفكه الذي احتال عليه بمناقضاته، وخاصة بما كان من تربيع ابن عبد الوهاب وتدويره، وقبحه وجماله، وما من ريب في أنه بلغ من ذلك كل ما كان يريد من سخرية بصاحبه، ونحن لا نبعد إذا جعلنا الجاحظ إمام الهجائين في العصر العباسي، إذ استطاع أن يلعب لعبًا واسعًا بما كان من قصر مهجوه وضيق عقله، والطريف أنه أخرج ذلك كله مخرج الجدل والحوار، ومسح عليه بالسفسطة والمغالطة، وهذا اللسان الذي فتقته الفلسفة، وهذا البيان الذي شحذته الثقافة، وهو يعرض ذلك كله عرض محدث لبق، ما يزال يخرج من باب إلى باب ومن فكرة إلى فكرة، وهي طريقة عامة في كتابات الجاحظ بعد مرضه، إذ تبدو في شكل إملاءات ومحاضرات، وهي لذلك تتصف بالتكرار والترداد، والاستطراد كما تتصف بالسمات الأخرى، التي تميزه من تقطيع صوتي بديع، وتلوين عقلي طريف، وهو ينزلق إلى ذلك كله في الرسالة التي بين أيدينا -عن طريق فكرة الأوساط فإذا زاد الجسم طولًا، أو نقص قصرًا، أو اتسع عرضًا، أصابته مساوئ الإفراط والتفريط، واستطاع الجاحظ أن يمثل بصاحبه، وأن يشوهه ما استطاع من تمثيل وتشويه، ونراه يعرض ذلك كله في معارض بيانية ممتازة تجعلنا نؤمن بأنه تفوق في صنعته على جميع كتاب عصره، إذ كان يؤصلها على التلوين العقلي من طرف، والتلوين الصوتي من طرف آخر، فإذا أساليبه تنهض بهذه الثروة العقلية الباهرة، تلك الموسيقى الرصينة الرائعة، والحق أن الجاحظ استطاع أن يدمج إدماجًا حسنًا بين ثقافته، وأسلوبه، وأن يخرج من ذلك إلى هذه الصنعة الجاحظية البديعة التي تقوم على التجانس بين اللفظ الموسيقي الرشيق، والمعنى العقلي الدقيق، تجانسًا يمتع العقل والفكر، كما يمتع الحس والشعور.