في التشديد على نفسه فيصطنع منهجًا جديدًا في قوافيه يعقد به موسيقاه؛ ولكن لا نستطيع أن نفهم هذا التصنع لاصطلاحات النحو والصرف والعروض، وكان يلح في طلبه إلحاحًا شديدًا. أليس يدل ذلك على أن التفكير الفني لم يعد يدخل فيه شيء طريف وأن الشعراء قد أحسوا إحساسًا ما بإجدابهم؛ فانطلقوا يتكلفون في شعرهم هذه الكلف التي لا تفصح عن جمال فني سوى هذا التعقيد الذي يدخله الشعراء من ممرات وأبواب كثيرة، تارة من ممرات موسيقية معقدة وتارة من أبواب بديعية ملفقة، وأخيرًا من هذه المسالك العلمية التي لا تضيف طرافة إلى الشعر أكثر من ذكر بعض الألفاظ وبعض المسائل والمصطلحات، ومع ذلك فقد كانت هذه المسالك تعدُّ بدعًا طريفًا في القرن الرابع وما تلاه من قرون، وأخذ أبو العلاء يوسع استخدامها؛ فهو لا يقتصر بها على ما مضى من فنون، بل هو يطلبها أيضًا في الفقه والدراسات الدينية، فإذا هو يقول:
حيرانُ أنت فأيُّ النَّاسِ تتَّبعُ ... تجري الحظوظُ وكلٌّ جاهلٌ طبعُ1
والأمُّ بالسُّدس عادتْ وهي أرأفُ من ... بنتٍ لها النصفُ أو عرسٍ لها الرُّبُعُ
فإنك تراه يخلط مسائل الدين الخاصة بتشاؤمه وما يرى في الحياة من مشاكل تؤديه إلى الشك والحيرة. وعلى هذا النمط ما يزال أبو العلاء يتعرض في اللزوميات لمسائل العلوم والفنون المختلفة يتخذ منها الحجج والأدلة على ما يزعمه من أفكار وآراء، وإنه ليكثر من ذلك كثرة مفرطة؛ حتى ليحس من يقرأ في لزومياته بأنه يقرأ في كتاب ثقافة لا في ديوان شعر. ولقد كان حريًّا به أن ينحِّي عن شعره هذه القيود الثقافية العارضة، ويكتفي بقيوده الدائمة السابقة، ولكنه يريد أن يصعب عمله وأن يسلك إليه أضيق الممرات والأبواب؛ فإذا هو يلتزم ما يلزم مرارا، مرة في حروف قوافيه وحركاتها، ومرة في ألفاظه الغريبة، ومرة في جناساته المعقدة، وأخيرًا في هذه اللوازم العارضة، حتى ليصبح الشعر لوازم خالصة.