الثالث، والتي تعد نوعًا من الرومانسية في الشعر العربي؛ وإنما معناه أن الشعراء لم يعودوا يحسنون استخدامها كما كان الشأن عند أبي تمام وابن المعتز؛ هم يستخدمونها ولكن استخدامهم لها معقد تعقيد هذه الحضارة التي عاشوا فيها، وهو تعقيد لا يضيف إلى الألوان جمالًا كهذا الجمال الذي رأيناه عند أبي تمام إنما هو تعقيد يأتي لذاته؛ فلا يضيف طرافة للون بل قد يزيل منه بعض أصباغه ويحيله لونًا باهتًا لا دفء فيه ولا حرارة. واقرأ هذا الطباق للمتنبي.
لمن تطلبُ الدُّنيا إذا لم ترِدْ بها ... سرورَ محبٍّ أو إساءة مجرمِ
فإنك تحس كأنك لا ترى هذا الطباق الذي أقامه بين السرور والإساءة والحب والإجرام؛ لأن الكلمات لا تتقابل؛ فليست كلمة الإساءة عكس كلمة السرور، ولا كلمة الإجرام عكس كلمة الحب، إنما عكس السرور الحزن كما أن عكس الحب البغض. ولكننا ننسى؛ فقد تركنا القرن الثالث ودخلنا في القرن الرابع، وهو قرن لا يستطيع أن يجاري النهضة العربية التي رأيناها في القرن الثالث، بل هو يتخلف كما تتخلف هذه المقابلات عند المتنبي أو هذه الطباقات التي يحسن أن نعطيها وصفًا جديدًا يميزها، نسميها طباقات غير دقيقة بل نسميها: طباقات باهتة، فالكلمات لا تتطابق ويحس الإنسان كأن اللون غائب منه لا يراه، فهو لون باهت لي كلون الطباق الزاهي الذي رأيناه عند أبي تمام، بل إن الإنسان يخيَّل إليه أنه لون آخر، فقد انحسرت عنه بعض أصباغه، وغدا لا يتَّشح بهذه الأصباغ الثرية التي كنا نراها في القرن الثالث.
لم يعد القرن الرابع يحسن استخدام وسائل التصنيع إلا أن يتولاها بشيء من التكلف يحيلها عن أصباغها كما نرى في هذا الطباق، ويتولاها بشيء من التعقيد في الأداء كهذا الجناس لبعض شعراء اليتيمة:
إن أسيافنا القصار الدوامي ... صيّرت ملكنا طويلَ الدوامِ
نحن قومٌ لنا سدادُ أمورٍ ... واصطلامُ الأعداء من وسطِ لامِ2