ووردتَّ بي بحبوحة الوادي ولو ... خلَّيتني لوقفت عند الْمِذنَبِ1
يقول له: إنك صفَّيت لي العطاء وكنت أراه من غيرك كدرًا وعسرًا؛ ولكن انظر كيف رمز لهذه الفكرة، فإنك تراه يبدأ فيجعل للماء جلدة، كما قالوا: جلدة السماء وأديم الأرض، ثم يستمر فيعبر عن الكدر والعسر بركوب الطحلب للماء، ويصور نفسه مع ممدوحه في بحبوحة الوادي وقطع الرياض؛ بينما غيره يقف به عند المذنب فلا يُنيله إلا الوَشل القليل.
وعم هذا التجسيم في شعر أبي تمام بحيث لا تخلو منه صفحة من صفحات ديوانه كأن يقول لابن أبي دؤاد:
يا أبا عبد الله أوْرَيتَ زندًا ... في يدي كان دائمَ الإصلادِ2
أنت جبت الظلام عن سبل الآمال ... إذ ضلَّ كلُّ هاد وحادِ
فقد عبر عن نُجْح مطلبه عنده وإخفاقه عند غيره بهذا الزناد الذي أوراه في يده، واستمر فقال: إنه كشف الظلام عن طريق الآمال؛ بينما ضل الحداة والروَّاد هذه الطرق. وكما كان أبو تمام يستخدم التجسيم للرمز عن أفكاره البعيدة كان يستخدم التدبيج، ومرت بنا في الفصل الأول من هذا الكتاب صور منه عند زهير؛ إذ ذكر في معلقته الأنماط والسدول الحمراء، كما ذكر المياه الزرقاء وفتات العهن الذي يشبه حَبَّ الفنا، وهي جميعها صور كان زهير يعطيها الألوان الحسية حتى تثبت في نفوسنا؛ غير أنها كانت تستعمل عنده في حال ساذجة، فهي لا تعبر عن فكر إنما تعبر عن حس وواقع، أما عند أبي تمام فإنها تتحول لتعبر عن فكر بعيد على نمط ما نراه يقول في رثاء ابن حميد الطوسي وقد قتل في الحرب:
تردَّى ثيابَ الموتِ حمرًا فما دجى ... لها الليلُ إلا وهي من سندسٍ خضرِ3
فقد جنح في التدبيج يستمد منه ما يريد من الرمز عن أفكاره، ألا تراه