أو ظهور "الصنعة"؛ فقد كان الشعراء أنفسهم يلتزمون لوازم كثيرة في صناعة شعرهم، كان الناس من حولهم يراقبونهم ويشجعونهم على التفوق والإجادة؛ وكأنما كان هناك ذوق عام يدعو الشعراء إلى التجويد والتحبير، يقول الجاحظ: "وهم يمدحون الحذق والرفق والتخلص إلى حبَّات القلوب وإلي إصابة عيون المعاني ويقولون: أصاب الهدف؛ إذا أصاب الحق في الجملة، ويقولون قَرْطَسَ فلان وأصاب القرطاس، إذا كان أجود إصابة من الأول، فإذا قالوا: رمى فأصاب الغُرَّةَ وأصاب عين القرطاس؛ فهو الذي ليس فوقه أحد، ومن ذلك قولهم: فلان يَفُلُّ الْحَزَّ ويصيب المفصل ويضع الهِناء مواضع النقب"1
ولعل ما يفسر ذلك أيضًا أنهم كانوا يسمون الشعراء بأسماء تصور مهاراتهم وإجادتهم؛ فربيعة بن عدي كان يسمَّى المهلهل؛ لأنه أول من هلهل الشعر وأرقَّه2 وكان طفيل الخيل يسمَّى المحبِّر لتزيينه شعره3، وكان النمر بن تولب يسمَّى في الجاهلية الكيس لحسن شعره4، وكذلك سُمِّيَ النابغة باسمه لنبوغه في شعره5، كما سمي المرقش باسمه لتحسينه شعره وتنميقه6، وسمي علقمة بالفحل7 لجودة أشعاره، وبجانب ذلك نجد أسماء أخرى مثل المثقب والمنخل والمتنخل والأفوه. وقد سموا القصائد بأسماء تصور هي الأخرى مبلغ تفوقهم وإجادتهم فسموها اليتيمة8 وسموها السموط9 وسموها الحوليات والمقلدات والمنقحات والمحكمات10.
وكل ذلك يدل على أن الشعراء كانوا يمتحنون وسائلهم ويجربونها، وما يزالون يبحثون عن "الأدوات" التي تكفل لشعرهم التفوق والنجاح، حتى