ويجيل فيها عقله، ويقلب فيها رأيه، اتهامًا لعقله وتتبعًا على نفسه؛ فيجعل عقله زمامًا على رأيه، ورأيه عيارًا على شعره، إشفاقًا على أدبه، وإحرازًا لما خوله الله من نعمته، وكانوا يسمون تلك القصائد: الحوليات والمقلدات والمنقَّحات والمحكمات ليصير قائلها فحلًا خِنذيذا وشاعرًا مفلقًا"،1 ويقول أيضًا: "كان زهير بن أبي سُلْمى يسمِّي كبار قصائده الحوليات؛ ولذلك قال الحطيئة: خير الشعر الحولي المحكَّك، وقال الأصمعي: زهير بن أبي سلمى والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر، وكذلك كل من جَوَّدَ في جميع شعره ووقف عند كل بيت قاله، وأعاد فيه النظر، حتى يخرج أبيات القصيدة كلها مستوية في الجودة. وكان يقال: لولا أن الشعر قد كان استعبدهم، واستفرغ مجهودهم، حتى أدخلهم في باب التكلف وأصحاب الصنعة، ومن يلتمس قهر الكلام واغتصاب الألفاظ لذهبوا مذهب المطبوعين الذين تأتيهم المعاني سهوًا ورَهْوًا، وتنثال عليهم الألفاظ انثيالًا"2.
وإذن فالجاحظ ينقض دعواه بما يذكره من أنه وُجدتْ طائفة عند العرب كانت تكد طبعها في عمل الشعر وصنعه، وكانت تقابلها طائفة أخرى لا تبلغ من التكلف غايتها، وهي طائفة المطبوعين كما يسميهم الأصمعي، وعبر ابن قتيبة عن الطائفتين في صورة أوضح؛ إذ يقول: "ومن الشعراء المتكلف والمطبوع؛ فالمتكلف هو الذي قَوَّمَ شعره بالثقات، ونقحه بطول التفتيش، وأعاد فيه النظر، كزهير والحطيئة3". وهذا التقسيم من حيث هو صحيح؛ ولكن ينبغي أن نتلقاه بشيء من الحذر، فإن هؤلاء المطبوعين لم يكونوا يلغون التكلف إلغاء. كما أن هؤلاء المتكلفين لم يكونوا يلغون الطبع إلغاء؛ ولذلك كنا نرى أن نعمم التكلف في الشعر القديم ونجعله على درجات يبلغ أعلاها عند زهير وأصحابه الذين كانوا يعملون شعرهم عملًا، ويأخذونه بالتفكير الدقيق، والبحث والتحقيق.