فالشعر الجاهلي ليس تعبيرًا فنيًّا حرًّا؛ بل هو تعبير فني مقيد، ليس تعبير الطبيعة والطبع، بل هو تعبير التكلف والصنعة، أما الفكرة التي تذهب عندنا إلى تقسيم الشعراء إلى أصحاب طبع وأصحاب صنعة، والتي نرى امتدادها في العصر الحديث1؛ فأكبر الظن أنها في حاجة إلى شيء من التصحيح؛ فإن أقدم آثار الشعر العربي ونماذجه لا تؤيد هذا التقسيم الذي لا يتفق وطبيعة الشعر العربي وحقائقه؛ فكله شعر مصنوع فيه أثر التكلف والصنعة، ولعل الجاحظ أول من أذاع هذه الفكرة ودعا إليها حين كان يعارض الشعوبية في بيانه؛ فادعى عليهم أنهم يقولون الشعر عن صناعة، أما العرب فيقولونه عن طبع وسجية؛ إذ يقول: "وكل شيء للعرب؛ فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام، وليس هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكرة ولا استعانة؛ وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام وإلى رجز يوم الخصام، أو حين يمتح على رأس بئر، أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة والمناقلة، أو عند صراخ أو في حرب؛ فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالًا2 وتنثال عليه الألفاظ انثيالًا، ثم لا يقيِّده على نفسه ولا يُدَرِّسُه أحدًا من ولده"3.

وليس من شك في أن الجاحظ بالغ في وصف الموهبة العربية والطبع العربي ليرد على الشعوبية؛ فإذا العرب يقولون بديهة وارتجالًا على خلاف غيرهم من الشعوب؛ فإنهم يقولون متكلفين، وأكبر الظن أنه لم يكن جادًّا حين ذهب هذا المذهب، إنما هو بصدد أن يفضل العرب على غير العرب، ولو ترك نفسه على طبيعتها في البحث والتحقيق لرأيناه يثبت للعرب صعوبة في القول، وبخاصة في صنع الشعر فهو نفسه يقول في البيان والتبيين: "من شعراء العرب من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولًا كريتًا "كاملًا" وزمنًا طويلًا يردِّد فيها نظره

طور بواسطة نورين ميديا © 2015