وكلاهما محال، والعمل بالمرجوح وترك الراجع خلاف صريح العقل، فيتعين العمل بالراجح.
إذا تقرر ذلك فالسبب في كثرة تنقلات المفلوكين في الأرض إنه متى استولت الفلاكة على شخص في بلد واضطراب في ارجائها وتلكع في طرق معاشها وذاق طبائع أهلها وراز شهامتهم وعصبيتهم وارتياحهم إلى المحامد وأريحتهم وامتحن قوته في التسلق إلى مطالبه وأبت تلك البلد عليه إلا نبوا ودفعا وممانعة عن المطلوب ومل وجوهاً لا خير فيها ومج سمعه كلاما لا محصل له وقذفهم بقلبه فقذفوه بقلوبهم بل وبظواهرهم، فحينئذ يظن أو يعلم أن تأتي المصلحة في ذلك البلد مستحيل أو متعسر، والبلد الثاني ظن الخير قائم به ولاسيما فيمن يتوهم في نفسه استعداداً لا فاضة الخير عليه، فيحب حينئذ السفر إلى البلد الثاني.
والأقيسة العقلية وان اقتضت استمرار الفلاكة في البلد الثاني من جهة أن موجبات الفلاكة القائمة بالمفلوك مصاحبة له سفراً وحضراً وكذلك موجبات فلاكته القائمة بالناس موجودة فيهم في كل بلد، لكن الأدلة متعارضة في البلد الثاني، والعلم المستفاد بالتجربة في البلد الأول مفقود في البلد الثاني، والاحتمالات مقتضية للاضطراب، وليس الخبر كالعيان ولا الشر الحاصل المحسوس كالشر المترقب المعقول وان كانا معلومين، ولذلك من قصده شخص بسيف مصلتاً يريد قتله وهو على سطح عال يرمي بنفسه منه إلى الأرض وإن كان ذلك أحد الطريقين في هلاكه، وربما صار السفر للمفلوك طبيعياً لكثرة ما يعاني من الشدائد والمشاق، كمن وقع في ماء أو نار فإنه بطبعه يأخذ إلى محيط النار وساحل الماء.
وإذا اتضح عندك ما قررناه وقفت على الحكمة في تمني المفلوكين تغير الدول وتشوفهم إلى ذلك، فإن الدولة الحاضرة كالبلد الأول والدولة المتمناة كالبلد الثاني، وقوة الرجاء وقيام احتمال الخير المتعلق بالدولة الثانية حكمه حكم البلد الثاني، وقد اشار إلى ذلك من قال:
إذا لم يكن للمرء في دولة امرئ ... نصيب من الدنيا تمنى زوالها
(ومنها) تعلقهم بالأسباب المستحيلة كالنجوم والكيمياء والمطالب والحرف الهوائية الضعيفة الصدفية كصناعة الشهود لغير المعروف والدلالة لغير المشهود، والسبب في ذلك إنه إذا أخففت مساعي المفاليك وعجزوا عن المعاش الطبيعي والتعلق بالأسباب المقيسة المطردة ودهشوا وتحيروا وعميت عليهم الأنباء وتعلقت نفوسهم بالدنيا ولذاتها