بحوائجهم وان يكونوا كلا عليهم، وأنهم يتأنفون المفاليك ويستقذرونهم ويستثقلون ظلهم ويتوقعون من تقريبهم مفاسد وضوحها يغني عن بسطها، ويتوهمون في بعضهم حداً وتملقاً كاذباً صاخياً من غير إخلاص ولا مناصحة. والقسم الثالث يمنع من الاجتماع بهم أمور كثيرة أعظمها عدم تعلق الرجاء والخوف بالمفاليك الذي هو داعية الاجتماع غالبا. وشغل هذا القسم بالمساوين لهم في النباهة بحيث لا يفضون للاجتماع بالمفاليك غالبا وعدم حرص المفاليك على استمالتهم واستعطافهم اضعف الرجاء فيهم. ولكن هذا القسم أقل مانعا من القسم الأخير. ولذلك ربما نال بعض المفاليك حظاً من الاجتماع بهم.
(ومنها) وأوعهم بالأسفار ومخاطرتهم بنفوسهم فيها مع ما فيه من العذاب المذاب، بشهادة قوله صلى الله عليه وسلم (السفر قطعة من العذاب) ولقد صرح بتعليل السفر بالفلاكة من قال:
يقيم الرجال الأغنياء بأرضهم ... وترمى النوى بالمقترين المراميا
والسبب في ذلك يفتقر بيانه إلى مقدمة، وهي: أن الظن أقوى من الشك، والعلم أقوى من الظن، ورتب الظنون متفاوتة في نفسها جلاءاً وخفاءاً وأجلى لقوة مستند الظن وضعفه، وكذلك رتب العلوم متفاوتة في المعلومية، فكم بين المشاهدات وبين كل قضية صدق العقل بها بواسطة الحس كعلمنا بحرارة النار وبرودة الثلج، وبين الحدسيات وهي كل قضية يصدق العقل بها بواسطة الحدس كالعلم بحكمة الصانع عند رؤية العالم على غاية الإتقان من التفاوت وان كان كل من المشاهدات والحدسيات مفيداً للعلم، ولذلك لم ينكر العلم المستفاد من الحس إلا السوفسطائية، وكم بين العقلاء من الاختلاف في الحدسيات اختلافاً قوياً وضعيفاً، ولذلك أيضاً فرقوا بين علم اليقين وعين اليقين. ومن هنا ينكشف لك مادة الجواب عن قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم {بلى ولكن ليطمئن قلبي}.
ثم الإنسان متشوف إلى مصلحته، فإذا تعارض عنده في تحصيل مصلحته طريقان احدهما مظنون والآخر مشكوك فيه أو احدهما أجلى في الظن من الآخر أو احدهما أقوى في المعلومية من الآخر فالعمل بهما معاً جمع للنقيضين وتركهما معاً رفع للنقيضين