بها، وذلك لأن الفلاكة متى زالت عن شخص تزلف إليه بالثناء عليه ونشر المحاسن عنه وحمل كلامه وفعله من المحاسن والمقاصد الجميلة فوق طاقته وتناقلته الألسنة تزلفاً إليه، لما يعلمون من أن النفوس مجبولة على حب الثناء، ووقعت المحاباة والإغماض عن أحواله المدخولة وأفرغت في قوالب جميلة بالتأويل والاعتذار وجاءت المغالطات بالتلبيس والتصنيع، فيطير ذكره في الآفاق وتسير به الركبان ويجيء الصيت والشهرة وليس هناك.
وعلى الجملة فالشهرة إنما تقع في غير موقعها من جهة ما يطرق الأخبار من التزلف بالثناء الكاذب أو ما يطرق الأحوال من الخفاء وعدم تطبيقها على الواقع لخفائها بالتلبيس والتصنع، فتنتشر على خلاف ما هي عليه وأنت خبير بأن التزلف بالثناء إنما يكون للأغنياء أو من في معناهم وان الإغماض عن التلبيس والتصنع وعدم كشف الغطاء عنه إنما يكون لهم أيضاً، واعتبر العكس بالعكس.
(ومنها) أن الفلاكة مهما استولت على عالم أو فاضل أو نبيه لزمه بسببها آلام عقلية، ولا شك أن الألم العقلي أقوى من الألم الجسماني، ولذلك يكون التعب القلبي أشد إنهاكاً للبدن من التعب الجسماني، ولذلك يتحمل عظيم المشاق البدنية خوفاً من العتب والتوبيخ والملامة والتقريع كما أن اللذة العقلية أقوى من اللذة الجسمانية.
والدليل على ذلك من ثلاثة أوجه:
(أولها) - أن اللذة عبارة عن إدراك الملائم، وكلما كان الإدراك أشد والمدرك اشرف كانت اللذة أتم، لكن الإدراك العقلي أقوى من الجسمي، لأنه ينفذ في باطن الشيء فيميز بين الماهية وأجزائها وعوارضها وجنسها وفصلها، وأما الحسي فلا شعور له إلا بظاهر المحسوس وسطوحه ومدرك العقل أشرف وهو الله تعالى وصفاته وملائكته وكيفية وضع العالم ومدرك الحس السطوح وعوارضه، وإذا كان كذلك وجب كون اللذة العقلية أقوى من اللذة الجسمانية. (وثانيهما) أنا نعلم بالضرورة أن أحوال الملائكة أطيب من أحوال البهائم، وليس للملائكة شيء من اللذات الحسية فلولا أن اللذة العقلية أطيب وإلا لكان حال البهائم أطيب من حال الملائكة.
(وثالثها) الحيوان قد يرجح غيره على نفسه في المطعوم والمشروب عند حاجته إليه، ولولا أن لذة الإيثار أقوى من لذة المطعوم والمشروب وإلا لما كان ذلك، بل الشجاع قد يلقى نفسه في المعركة مع ظن الهلاك أو يقينه، وما ذلك إلا لأن لذة