ثم رومانية. وما دام المصريون يجهلون اليونانية واللاتينية، فلا مفر لهم من النظر إلى جزء من تراثهم القومي بمنظار أجنبي. إن الثقافة الكلاسيكية هي من المقتضيات الضرورية للقومية المصرية (19).
أما التعليم العالي، فلا يتعرض له طه حسين بمثل هذه الاقتراحات التفصيلية. وما ذلك إلا لأنه يعتقد أن الجامعات يجب أن لا تخضع لرقابة الحكومة أو توجيهاتها، بل من الضروري لها أن تتمتع بحرية مطلقة: حرية مالية للتصرف كما تشاء بما تقدمه لها الحكومة من مخصصات، وحرية أكاديمية في كل ما يتعلق بالتعليم والتعلم. غير أن من الواضح أن مفهومه للتعليم العالي، لا بل للتربية بكاملها، إنما هو مفهوم إنساني: فالجامعة يجب أن تكون، قبل كل شيء، مجتمعًا فكريًا قائمًا على المودة والصداقة والتعاون والتضامن (20).
أما الأزهر، وهو مركز رئيسي من مراكز التعليم العالي، فيجب أن يتمتع بالحرية التي يتمتع بها سواه، لما له من دور مهم في تكوين ثقافة مصر القومية، وذلك لكثرة عدد طلابه، وصلاته الوثيقة بجميع طبقات الشعب، وتراثه الخاص. لكن وظيفته تنحصر في أمر واحد، هو أن يكون مركز الدراسات الدينية، وبالتالي «معينًا للحياة الروحية» في الأمة. وليس للأزهر له أن يعني بالتربية العامة: فاحتكاره التقليدي لتخريج أساتذة اللغة العربية للمدارس يجب أن يبطل ما دام هو نفسه لا يحسن تعليم اللغة العربية. (تناول طه حسين، في الجزء الثاني من سيرة حياته، بالنقد اللاذع الطريقة التي تلقن بها اللغة العربية هناك). والأزهر يجب أن يتغير أيضًا حتى «كمعين للحياة الروحية»، فيعمد إلى تدريس الإسلام الحقيقي، دين الحرية والعلم والمعرفة. دين التطور والتقدم ونشدان المثل الأعلى في الحياتين المادية والروحية على السواء. وعلى الأزهر أن يلقن المعنى الصحيح للوطنية الإقليمية، لا الفكرة القديمة عن القومية الدينية (21). (لا شك، قياسًا على هذا، أن طه حسين كان يفكر التفكير ذاته في التربية الدينية القبطية. فتدريس المسيحية القبطية