يحرر العقل البشري من الأوهام والخرافات ويسمح له بإنماء جميع مواهبه. فالتوحيد الذي هو الركن الأول من أركان الإسلام يطهر الذهن من جميع الأوهام. فهو بقيامه على أساس أن الله هو وحده خالق الكون لا يترك مجالًا للاعتقاد بقدرة أي كائن من الكائنات المخلوقة على التأثير في الخليقة، كما لا يسمح بالقول إن الله ظهر في صورة الإنسان أو الحيوان أو أنه قاسي الآلام في وقت من الأوقات في سبيل المخلوقات (52). وما من دين آخر يعلم بهذا الشكل أن العقل قادر على معرفة كل شيء وامتحان كل شيء، وأن عقل كل إنسان قادر على ذلك. فما من دين سواه إذن يوحي للناس باحترام الذات وبالشعور بالمساواة، هذا الاحترام وهذا الشعور اللذين يختلج بهما فؤاد المسلمين أو يجب أن يختلج بهما فيما لو عرفوا حقيقة دينهم. أن اليهودية والهندوكية، كل بطريقتها الخاصة، تنكر المساواة بين البشر، كما تنكر المسيحية على الجميع ما عدا الإكليروس إمكانية معرفة الحقيقة الإلهية وهي تعلم فضلًا عن ذلك بعض العقائد التي لا يقبل بها العقل (53). لذلك لا يمكن للعقل البشري أن يحقق نفسه إلا بالإسلام، لأن الشريعة التي تسلمها النبي من الله هي شريعة الطبيعة نفسها التي يمكن للعقل البشري أن يتبينها من دراسة الكون.
غير أن هناك صعوبة تلحق بهذه النظرة. فإذا كان بإمكان العقل البشري بلوغ جميع الحقائق الضرورية للحياة، فما الحاجة إذن إلى النبوة؟ على هذا السؤال يجيب الأفغاني بأنه بينما يمكن للعقل مبدئيًا بلوغ الحقيقة، فالطبيعة البشرية لا يمكنها بقواها الخاصة إتباع القواعد التي يضعها العقل. فالإنسان مليء بالشهوات والرغبات الأنانية التي لا يمكن إلا لمبدأ العدل ضبطها كما ينبغي. وهو أمر يتم بأربع طرق: إما بأن يدافع كل عن حقه بالقوة، وهذا ما يؤدي إلى الفوضى والاضطهاد؛ وإما أن يتقيد كل بما يمليه عليه شرفه، ومفهوم الشرف يتغير من مجتمع إلى آخر بل من طبقة