فالمؤلفان تونسيان، وضعا كتابيهما في فترة عزلة عن الحياة السياسية، وعالجا فيهما، كل على طريقته، قضية نشوء الدول وسقوطها. وقد قسم كل منهما كتابه إلى مقدمة لعرض المبادئ العامة وإلى أجزاء عدة. إلا أن التشابه يقف عند هذا الحد. ففيما يعني كتاب ابن خلدون، في معظمه، بتاريخ الدول الإسلامية. يعني كتاب خير الدين، في معظمه أيضًا، بتاريخ الدول الأوروبية وتركيبها السياسي وقوتها العسكرية. وتكمن أهمية كتاب خير الدين في مقدمته التي يشرح، في مطلعها، أن ما حمله على وضع كتابه مقصدان:
«الأول، حمل أصحاب الغيرة والهمم من رجال الدين والدنيا على السعي في سبيل كل ما يؤول إلى خير الأمة الإسلامية، وهو مدنيتها، من توسيع لحدود المعرفة وتمهيد للسبل المؤدية إلى الازدهار، مما لا يتم إلا بفضل حكم صالح؛ والثاني، إقناع العدد الغفير من المسلمين الذين غرس في أذهانهم النفور من كل ما يصدر عن غير المسلمين من أعمال ومؤسسات، بضرورة انفتاحهم إلى ما هو صالح ومنسجم مع الدين الإسلامي من عادات أتباع الديانات الأخرى (45).
وبتعبير آخر، أراد خير الدين أن يظهر ما هي أسباب قوة المجتمعات وتمدنها، وبنوع خاص دور الدولة في المجتمع، وذلك بتحليل تلك المجتمعات الأشد قوة وأكثر تمدنًا في العالم الحديث. وأن يثبت أن السبيل الوحيد في العصر الحاضر لتقوية الدول الإسلامية إنما هو في اقتباس الأفكار والمؤسسات عن أوروبا وإقناع المسلمين المحافظين بأن ذلك ليس مخالفًا للشريعة بل منسجمًا مع روحها. ونراه، بالواقع، يوجه حججه إلى المسلمين المحافظين، منطلقًا فيها من النظرية التقليدية في الدولة. لم يكن محور تفكيره الخاص الأمة القومية، كالطهطاوي، بل الأمة الإسلامية. ومع أنه استعمل أحيانًا تعابير الطهطاوي في «الوطن» و «حب الوطن» (46)، غير أنه استعملها، في الأكثر، بمعناها العام، كمرادف «للجماعة