عن مهارة خير الدين الدبلوماسية، فبعث به مرة أخرى إلى إسطنبول، في 1864، بالمهمة ذاتها. ولما أخفق للمرة الثانية، كما أخفق في الإصلاحات الدستورية، انسحب مؤقتًا من الحياة السياسية. وقد وضع، في هذه الفترة الانعزالية، دراسة في الحكم، نشرت في 1867.
وفي 1869، أدى تردي الأوضاع المالية في تونس إلى إنشاء لجنة دولية لإدارة الواردات، وتعيين خير الدين رئيسًا لفرعها التنفيذي. وفي 1871 بعث مجددًا إلى إسطنبول، لكن مهمته هذه المرة تكللت بالنجاح. فقد كانت الحرب مع ألمانيا قد أضعفت فرنسا، فلم تقو على إبداء مقاومة فعالة ضد صدور فرمان يثبت وضع تونس كجزء من الإمبراطورية العثمانية متمتع بالحكم الذاتي. إلا أن فرنسا لم تعترف بهذا الوضع قط. وفي هذه الأثناء، كان خير الدين قد عين وزيرًا للداخلية والمالية والخارجية، ثم أصبح، في 1873، رئيسًا للوزراء، واحتفظ بهذا المركز لمدة أربع سنوات مستخدمًا إياه لإجراء إصلاحات عدة: تحسين الأساليب الإجرائية في الإدارة وإعادة تنظيم الأوقاف والقواعد الإجرائية في المحاكم الشرعية، وتحسين المدن، وإصلاح التعليم في جامع الزيتونة، وتعزيز مطبعة الحكومة وتوسيعها، وإنشاء مكتبة وطنية، وتأسيس مدرسة «الصادقية» الحديثة لتعليم اللغات التركية والفرنسية والإيطالية والعلوم الحديثة، فضلًا عن اللغة العربية وعلوم الدين الإسلامي (40). غير أن العراقيل ذاتها التي كانت قد اعترضته في الماضي، اعترضته الآن أيضًا: مطامع الدول وتنافسها، ورغبة الباي في الاحتفاظ بسلطته. فانتهج خير الدين سياسة الإبقاء على التوازن بين الدول الثلاث التي كانت لها مصالح في تونس: إنكلترا وفرنسا وإيطاليا، وذلك بمحاولة عدم التنازل إلى أي منها أكثر مما ينبغي، من جهة، وعدم إغضاب أي منها كليًا، من جهة أخرى. إلا أن انتهاج سياسة التوازن هذه، من قبل دولة ليس لها قوة من ذاتها، هو أمر خطر