فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: فَقَاضٍ اجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَقَاضٍ حَكَمَ بِغَيْرِ الْحَقِّ مُتَعَمِّدًا فَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَهُوَ فِي النَّارِ» .

قِيلَ لَهُ: أَوَّلُ مَا فِي (هَذَا) : إنَّ هَذَا الْخَبَرَ قَدْ دَلَّ عَلَى إبَاحَةِ الِاجْتِهَادِ، لِأَنَّهُ حَكَمَ لِمَنْ أَصَابَ فِي اجْتِهَادِهِ بِالْجَنَّةِ، وَلَوْلَا أَنَّ الِاجْتِهَادَ مَأْمُورٌ بِهِ لَمَا اسْتَحَقَّ الْجَنَّةَ عِنْدَ الْإِصَابَةِ فِي اجْتِهَادِهِ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَوْ كَانَ مَحْظُورًا لَمَا اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ عَلَى مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ، لِأَنَّ السَّبَبَ إذَا كَانَ مَحْظُورًا، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَسْتَحِقَّ الثَّوَابَ عَلَى مُسَبَّبِهِ.

أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ رَمَى مُسْلِمًا مَحْظُورَ الدَّمِ، فَأَصَابَ كَافِرًا حَرْبِيًّا: أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ بِهَذِهِ الْإِصَابَةِ. لِكَوْنِ السَّبَبِ الَّذِي عَنْهُ كَانَ مَحْظُورًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الَّذِي أَخْطَأَ: إنَّهُ فِي النَّارِ، فَإِنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّا لَا نُسَوِّغُ الِاجْتِهَادَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا نُجِيزُهُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ دُونَ بَعْضٍ، عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ. وَعَلَى مَا حَكَيْنَا عَنْ الصَّحَابَةِ، فِي تَقْسِيمِنَا اخْتِلَافَهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ، وَالْآخَرُ: خَارِجٌ عَنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ وَدَاخِلٌ فِي الْأُمُورِ الَّتِي كُلِّفُوا إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ. فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ وَعِيدُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ إنَّمَا خَرَجَ عَلَى مَنْ اجْتَهَدَ فِيمَا قَدْ قَامَتْ دَلَالَتُهُ وَظَهَرَتْ حُجَّتُهُ فَأَخْطَأَهُ، كَخَطَأِ الْخَوَارِجِ وَأَضْرَابِهِمْ، فَهُمْ فِي النَّارِ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015