لِأَبِي بَكْرٍ بِاجْتِهَادِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوهُ إلَّا وَقَدْ كَانَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوْقِيفٌ لَهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ نَصْبَ إمَامٍ بِاجْتِهَادِ آرَائِهِمْ، ثُمَّ إنَّ عُمَرَ جَعَلَهَا شُورَى بَيْنَ سِتَّةٍ، وَرَضِيَتْ السِّتَّةُ وَالْجَمَاعَةُ بِذَلِكَ، لَمْ يُنْكِرْهُ مِنْهُمْ مُنْكِرٌ، وَكَانَ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِ رَأْيٍ مِنْهُ، وَالشُّورَى إنَّمَا هِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَى الرَّأْيِ، وَتَوْلِيَةُ مَنْ يَرَوْنَ ذَلِكَ لَهُ، ثُمَّ اجْتَهَدَ السِّتَّةُ فَجَعَلُوا الْأَمْرَ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَلَى أَنْ يُخْرِجَ نَفْسَهُ مِنْهَا وَيَخْتَارَ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى (بِاجْتِهَادِهِ، ثُمَّ رَأَى) عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَنْ يُوَلِّيَهُ مَنْ يَتَّبِعُ سُنَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسِيرَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَعَرَضَ ذَلِكَ عَلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَعْمَلُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَاجْتِهَادِ رَأْيِي، وَعَرَضَهُ عَلَى عُثْمَانَ فَقَبِلَهُ عَلَى مَا شَرَطَهُ عَلَيْهِ، فَرَأَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَنْ يُوَلِّيَهُ (مَنْ عَمِلَ فِيهِ) بِسُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسِيرَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، لِأَنَّهُ رَأَى النَّاسَ قَدْ صَلَحُوا عَلَى سِيرَتِهِمَا، وَفُتِحَتْ الْفُتُوحُ فِي أَيَّامِهِمَا، وَوُجِدَتْ فِيهِمْ الصِّفَةُ الَّتِي وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا، وَرَأَى مَوْعُودَ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ صَحَّ فِيهِمْ، فِي قَوْله تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55] إلَى آخِرِ الْآيَةِ.
وَاتَّفَقَتْ آرَاؤُهُمْ عَلَى جَوَازِ الشُّورَى، وَاتَّفَقَتْ أَيْضًا فِي جَعْلِ الْأَمْرِ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَاخْتَلَفَتْ فِي أُمُورٍ أُخَرَ. فَلَمْ يُنْكِرْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ اجْتِهَادَ رَأْيِهِ، (وَإِنْ خَالَفَ بِهِ رَأْيَ غَيْرِهِ، بَلْ سَوَّغُوا لِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْهُمْ رَأْيَهُ) وَمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. وَأَجْمَعُوا بِاجْتِهَادِهِمْ عَلَى وَضْعِ الْجِزْيَةِ عَلَى الطَّبَقَاتِ الْمَعْلُومَةِ، وَعَلَى وَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَى أَرْضِ السَّوَادِ، وَعَلَى مُضَاعَفَةِ الصَّدَقَاتِ عَلَى بَنِي تَغْلِبَ. وَالْقَضَايَا الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا بِاجْتِهَادِ آرَائِهِمْ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُمْكِنَ الشَّكُّ فِيهَا، أَوْ أَنْ يَعْرِضَ فِيهَا رَيْبٌ لِذِي فَهْمٍ وَدِرَايَةٍ.