النَّفْسِ مِنْ شَهَادَةِ اثْنَيْنِ بِهِ لِزَيْدٍ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَلَيْسَ لِزِيَادَةِ الشُّهُودِ تَأْثِيرٌ فِي وُجُوبِ الِاسْتِحْقَاقِ.
وَهُوَ عِنْدِي مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا، لِأَنَّهُمْ قَدْ قَبِلُوا مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ الَّتِي عَارَضَهَا خَبَرُ الِاثْنَيْنِ، وَالثَّلَاثَةِ، أَخْبَارًا كَثِيرَةً، أَكْثَرَ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلَى زِيَادَةِ الْعَدَدِ.
وَمَا سَمِعْنَا أَيْضًا أَبَا الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَطُّ يُفَرِّقُ بَيْنَ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَخَبَرِ الِاثْنَيْنِ فِي طُولِ مَا جَارَيْنَاهُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ، بَلْ كَانَ الْمَفْهُومُ عِنْدَنَا مِنْ مَذْهَبِهِ وَمَا لَا شَكَّ فِيهِ اعْتِقَادُهُ، وَمَا يَجْرِي عَلَيْهِ حِجَاجُهُ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ، وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَا حُكِيَ أَيْضًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا.
وَقَدْ ذَكَرَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: يَلْزَمُ مَنْ قَالَ: لَا أَلْتَفِتُ إلَى عَمَلِ النَّاسِ، لِأَنَّ الْخَبَرَ مُسْتَغْنٍ بِنَفْسِهِ، أَنْ يَقُولَ: إذَا تَضَادَّتْ الْأَخْبَارُ أَخَذْت بِأَقْوَاهَا إسْنَادًا، وَأَصَحِّهَا فِي الْخَبَرِ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ مَا جَاءَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَوْلَى أَنْ يُعْمَلَ بِهِ مِمَّا جَاءَ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ الِاثْنَيْنِ أَقْوَى فِي الْخَبَرِ مِنْ الْوَاحِدِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى: أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ كَانَ مُتَقَرِّرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ الَّذِي تَكَلَّمَ عَلَيْهِ، فِي أَنَّ خَبَرَ الِاثْنَيْنِ لَا مَزِيَّةَ لَهُ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ كَانَا أَقْوَى فِي النَّفْسِ مِنْهُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّهُ إذَا أَخْبَرَهُ رَجُلَانِ ثِقَتَانِ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ أَوْ طَهَارَتِهِ، وَأَخْبَرَهُ وَاحِدٌ ثِقَةٌ بِخِلَافِ ذَلِكَ: أَنَّهُ يَعْمَلُ بِقَوْلِ الِاثْنَيْنِ، وَإِنْ كَانَا عَبْدَيْنِ وَيَتْرُكُ قَوْلَ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ حُرًّا.
قَالَ: وَإِنْ أَخْبَرَهُ حُرَّانِ ثِقَتَانِ بِالْأَمْرِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَعَبْدَانِ ثِقَتَانِ بِالْأَمْرِ الْآخَرِ. أَنَّهُ يَأْخُذُ بِقَوْلِ الْحُرَّيْنِ، لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا تُقْطَعُ بِهَا الْأَحْكَامُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا لَا يَدُلُّ مِنْ قَوْلِهِ: عَلَى أَنَّ خَبَرَ الِاثْنَيْنِ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ أَوْلَى مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ نَاقِلِي أَخْبَارِ الْآحَادِ أَنَّ خَبَرَ الرَّجُلَيْنِ لَا مَزِيَّةَ لَهُ عَلَى خَبَرِ الْمَرْأَتَيْنِ، وَأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ، يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ خَبَرُ الْحُرَّيْنِ، وَخَبَرُ الْعَبْدَيْنِ سَوَاءٌ، لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ الْحُرَّانِ يُقْطَعُ بِشَهَادَتِهِمَا وَلَا يُقْطَعُ بِشَهَادَةِ الْعَبْدَيْنِ.