وَقَدْ يَجُوزُ عِنْدَنَا إبَاحَةُ الدَّمِ بِالِاجْتِهَادِ، وَيَجُوزُ حَظْرُهُ أَيْضًا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، فِيمَا لَمْ يُنْصَبْ لَنَا عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ.
أَلَا تَرَى: أَنَّا نُجَوِّزُ الِاجْتِهَادَ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، وَنُسَوِّغُ الِاجْتِهَادَ فِي حَظْرِهِ، فَيَكُونُ الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا مُصِيبِينَ. وَإِنَّمَا (لَا) يُسَوَّغُ ذَلِكَ فِيمَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ فِيهِ بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، فَيَذْهَبُ ذَاهِبٌ عَنْ وَجْهِ الدَّلَالَةِ لِشُبْهَةٍ تَدْخُلُ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ مُخْطِئًا، ثُمَّ يَخْتَلِفُ مَرَاتِبُ الْمُخَالِفِينَ لَنَا فِيهِ فِي بَابِ الْمَأْثَمِ، وَعِظَمِ الْخَطَأِ، عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيه الْوَاقِعُ فِيهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا تَقُولُونَ فِيمَنْ وَافَقَكُمْ عَلَى إبَاحَةِ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَصْلِ، وَخَالَفَكُمْ فِي تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَزَعَمَ أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ، وَالْمُصِيبُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ؟ هَلْ تَجْعَلُونَ مَذْهَبَهُ هَذَا (مِنْ) بَابِ الِاجْتِهَادِ، وَتُصَوِّبُونَهُ فِيهِ؟ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِالْخَطَأِ فِي تَصْوِيبِكُمْ الْمُجْتَهِدِينَ، وَقَوْلُهُ صَوَابٌ، وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ تَقْتَضِي مِنْكُمْ الْقَوْلَ بِخَطَأِ قَوْلِكُمْ، مِنْ حَيْثُ صَوَّبْتُمْ مَنْ قَالَ فِيهِ بِتَخْطِئَتِكُمْ. وَإِنْ لَمْ تُسَوِّغُوا لَهُمْ الْقَوْلَ: بِأَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ، لَزِمَكُمْ (الْحُكْمُ بِتَأْثِيمِهِمْ) عَلَى حَسَبِ مَا الْتَزَمْتُمُوهُ مِنْ نَفْيِ الْقَوْلِ بِالِاجْتِهَادِ رَأْسًا. قِيلَ لَهُ: لَا فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِنَفْيِ الِاجْتِهَادِ رَأْسًا، وَبَيْنَ مَنْ نَفَى تَصْوِيبَ الْمُجْتَهِدِينَ فِيمَا وَصَفْنَا، وَلَا يُسَوَّغُ عِنْدَنَا الِاجْتِهَادُ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ، كَمَا لَا يُسَوَّغُ فِي نَفْيِ الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ. وَالْحُكْمُ بِتَأْثِيمِ الْجَمِيعِ وَاجِبٌ عِنْدَنَا، وَهُمَا بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٌ فِي هَذَا الْوَجْهِ، لِأَنَّ الدَّلَالَةَ الَّتِي دَلَّتْ مِنْ جِهَةِ الْآثَارِ وَفِعْلِ الصَّحَابَةِ عَلَى جَوَازِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ: هِيَ بِعَيْنِهَا دَالَّةٌ عَلَى تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ، عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا، فَالْحُكْمُ بِتَخْطِئَةِ الْفَرِيقَيْنِ وَتَأْثِيمِهِمَا وَاجِبٌ.