وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ لِلْعُلَمَاءِ وَجْهَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ، لِيَزُولَ عَنْهُ الظِّنَّةُ فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَإِيثَارِ الْهُوَيْنَا مِنْ غَيْرِ مُقَايَسَةٍ وَلَا نَظِيرٍ، وَأَنَّ مَا انْتَحَلَهُ وَجْهٌ يُسَوِّغُهُ الِاجْتِهَادُ، وَيَجُوزُ اعْتِقَادُهُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُوجِبُ تُسَاوِي الْعُلَمَاءِ فِي رُتْبَةِ الْعِلْمِ، وَأَنْ لَا يَفْضُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، إذْ كُلُّهُمْ مُصِيبٌ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى: فَإِنَّهُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِمَا ذُكِرَ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ إذَا كَانَ عَلَى مَرَاتِبَ: مِنْهُ: مَا يُصَادِفُ (بِهِ) حَقِيقَةَ الْمَطْلُوبِ (وَمِنْهُ مَا يَقْصُرُ دُونَهُ، جَازَ أَنْ يَتَفَاضَلَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ أَكْثَرَ مُوَافَقَةً لِلْمَطْلُوبِ) كَانَ أَعْلَى رُتْبَةً فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ مُصِيبٌ لِلْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ الْأَشْبَهُ. وَأَيْضًا: فَلَيْسَ الْعِلْمُ كُلُّهُ مَقْصُورًا عَلَى الِاجْتِهَادِ، حَتَّى إذَا تَسَاوَى الْمُجْتَهِدُونَ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ مُصِيبٌ، وَجَبَ الْحُكْمُ بِتَسَاوِيهِمْ فِي مَرْتَبَةِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ قَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَعْلَمَ بِالْأُصُولِ أَنْفُسِهَا، وَمَوَاضِعِ النُّصُوصِ وَالِاتِّفَاقِ، وَقَدْ يَكُونُ أَعْرَفَ بِوُجُوهِ الِاسْتِدْلَالِ، وَرَدِّ الْحَوَادِثِ إلَى النَّظَائِرِ وَالْأَشْبَاهِ، وَوُجُوهِ التَّأْوِيلَاتِ، وَاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لِلْمَعَانِي، وَبِحُكْمِ الْأَلْفَاظِ وَمُقْتَضَاهَا مِنْ الْمَعَانِي. فَإِذَا كَانَتْ مَنَازِلُ الْعُلَمَاءِ قَدْ تَتَفَاوَتُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ، فَلَمْ يَلْزَمْنَا إسْقَاطُ مَرَاتِبِ الْعُلَمَاءِ بِتَصْوِيبِنَا الْمُجْتَهِدِينَ، إذَا كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ قَدْ تَتَفَاوَتُ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا؟ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا تَقُولُ فِي الْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ الْأَشْبَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى؟ تَقُولُ: إنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَادِثَةِ؟ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَوَاجِبٌ أَنْ تُقِيمَ الدَّلِيلَ عَلَيْهِ، وَتَجْعَلَ لِلْمُجْتَهِدِ سَبِيلًا إلَى الْعِلْمِ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا مَعْنَى لِتَكْلِيفِهِمْ طَلَبَهُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُكَلِّفَهُمْ