وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَخْتَارُ أَيَّهُمَا شَاءَ، فَأَيَّهُمَا اخْتَارَهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْعُدُولُ عَنْ الْآخَرِ، إلَّا بِضَرْبٍ مِنْ الرُّجْحَانِ، يُوجِبُ لَهُ الْعُدُولَ عَنْهُ. فَقَدْ انْعَقَدَ إجْمَاعُ الْجَمِيعِ، بِامْتِنَاعِ جَوَازِ انْتِقَالِ مَا اخْتَارَهُ عِنْدَ تَسَاوِي جِهَاتِ الِاجْتِهَادِ عِنْدَهُ إلَى غَيْرِهِ، مِنْ غَيْرِ رُجْحَانٍ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ، يُوجِبُ لَهُ الْعُدُولَ إلَيْهِ عَنْ الْأَوَّلِ. فَمَتَى أَجَزْنَا لَهُ التَّقَلُّبَ فِي الِاخْتِيَارِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ نَظَرٍ وَلَا رُجْحَانٍ، كَانَ ذَلِكَ خُرُوجًا عَنْ نِطَاقِ الْإِجْمَاعِ. وَجِهَةٌ أُخْرَى: وَهِيَ (أَنَّ) التَّنَقُّلَ فِي الرَّأْيِ وَالِاخْتِيَارِ مَعَ تَقَارُبِ الْحَالِ وَسُرْعَةِ الْمُدَّةِ، فِعْلٌ مَذْمُومٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ، إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سَبَبٌ يَدْعُو إلَيْهِ، وَالْمَعْنَى عَلَى شَاكِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلُزُومِ طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، أَحْسَنُ عِنْدَهُمْ فِي الْأَخْلَاقِ، وَالسِّيَرِ، وَالسِّيَاسَاتِ، مِنْ التَّنَقُّلِ فِي الْآرَاءِ وَيُسَمُّونَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ ذَا بَدَوَاتٍ، يَذُمُّونَهُ بِهِ، وَتَقِلُّ الثِّقَةُ بِرَأْيِهِ وَالِاسْتِنَامَةُ إلَى اخْتِيَارَاتِهِ. فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، صَارَ حُصُولُ هَذَا الْمَعْنَى مُوجِبًا لِلْقَوْلِ الَّذِي اخْتَارَهُ ضَرْبًا مِنْ الرُّجْحَانِ، وَوَجْهًا مِنْ الِاخْتِصَاصِ فِي كَوْنِهِ أَوْلَى بِالْإِثْبَاتِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ وُجُودَ الرُّجْحَانِ فِيهِ لِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِي الِابْتِدَاءِ يُوجِبُ كَوْنَهُ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ إذَا حَصَلَ لَهُ بَعْدَ اخْتِيَارِهِ إيَّاهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوهِ الرُّجْحَانِ، أَوْجَبَ ذَلِكَ كَوْنَهُ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ بَعْدَ اخْتِيَارِهِ الْآخَرَ الْعُدُولُ إلَيْهِ. مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: إنَّ التَّنَقُّلَ فِي الرَّأْيِ وَالتَّقَلُّبَ فِي الِاخْتِيَارِ مَعَ قُرْبِ الْمُدَّةِ وَسُرْعَةِ الْوَقْتِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ أَوْجَبَهُ، يُوجِبُ الظِّنَّةَ بِصَاحِبِهِ، وَالتُّهْمَةَ لَهُ فِي إيقَاعِ الْهَوَى، وَاخْتِيَارِ الْمَيْلِ إلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، بِمَا تَسَلَّقَ بِهِ عَلَى إيثَارِهِ الْهُوَيْنَا فِي أَمْرِ الدِّينِ، وَعَلَى فَسَادِ الْعَقِيدَةِ. وَالْإِنْسَانُ مَنْهِيٌّ عَنْ فِعْلِ مَا يَطْرُقُ عَلَى نَفْسِهِ هَذِهِ الْوُجُوهِ. وَرُبَّمَا تَسَلَّقَ أَيْضًا بِتَجْوِيزِ ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ لَا دِينَ لَهُ، مِمَّنْ يَتَعَاطَى ذَلِكَ مِنْ الْحُكَّامِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015