وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، فَسَقَطَ سُؤَالُهُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. ثُمَّ قَدْ تَنَازَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ حُكْمَهَا كَانَ مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ لَا مِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا حُكْمُ دَاوُد فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ (بِحُكْمٍ) اسْتَمَدَّهُ مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ، ثُمَّ نُسِخَ حُكْمُهُ فِي مِثْلِهَا عَلَى لِسَانِ سُلَيْمَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] مَعْنَاهُ: أَنَّا عَلَّمْنَاهُ حُكْمَهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّ حُكْمَهُمَا كَانَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، إلَّا أَنَّ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَصَابَ حَقِيقَةَ الْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ الْأَشْبَهُ، وَلَمْ يُصِبْهَا دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (فَخَصَّ سُلَيْمَانَ) بِالْفَهْمِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ، وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا مُصِيبِينَ لِمَا كُلِّفَاهُ مِنْ الْحُكْمِ. قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمَا مُصِيبَانِ جَمِيعًا: قَوْله تَعَالَى: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] . فَأَثْنَى عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَوَصَفَهُمَا بِالْعِلْمِ وَالْحُكْمِ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمَا جَمِيعًا كَانَا مُصِيبِينَ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي تَعَبَّدَا بِهِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَوْ كَانَ دَاوُد مُصِيبًا لِلْحُكْمِ لِمَ نَقَضَهُ سُلَيْمَانُ حِينَ خُوصِمَ إلَيْهِ فِيهِ؟ وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَكَمَ فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا بِخِلَافِ حُكْمِ دَاوُد فِيهَا؟ قِيلَ لَهُ: الِاحْتِمَالُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَائِمٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ دَاوُد لَمْ يَلْزَمْ الْحُكْمَ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَإِنَّمَا أَظْهَرَ لِلْقَوْمِ الْحُكْمَ عِنْدَهُ فِيهِ وَلَمْ يُمْضِهِ، حَتَّى لَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ سُلَيْمَانَ قَالَ: الْحُكْمُ عِنْدِي كَيْتَ وَكَيْتَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إلَى سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي تِلْكَ الْحُكُومَةِ، وَنَصَّ لَهُ