وَالثَّانِيَةُ: دَعْوَاهُ الْعِلَّةَ الَّتِي خِلَافُ خَصْمِهِ إيَّاهُ فِيهَا (كَهُوَ) فِي نَفْسِ الْمَقَالَةِ.
وَالثَّالِثَةُ: أَنَّهُ قَرَنَ إلَى دَعْوَاهُ الثَّانِيَةِ دَعْوَى تَالِيَةً تَجْعَلُهَا حُجَّةً لِمَقَالِهَا، لِزَعْمِهِ أَنَّهُ حِينَ قَالَ: فَهَذِهِ الْعِلَّةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَقَالَ بِهَا أَيْضًا فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى، قَدْ خَالَفَ خَصْمَهُ فِيهَا، وَهِيَ دَعْوَى ثَالِثَةٌ، لَا دَلَالَةَ عَلَيْهَا لِيَصِحَّ الْمَذْهَبُ.
فَكَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِ، وَتَحْصِيلُهُ: أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَايَ هَذِهِ أَنِّي ادَّعَيْتُ دَعْوَى أُخْرَى مِثْلَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَالسُّؤَالُ عَلَيْهِ فِي دَعْوَاهُ الثَّالِثَةِ كَهُوَ فِي الثَّانِيَةِ وَالْأُولَى؛ لِأَنَّ الدَّعَاوَى لَا تَصِحُّ بِأَنْفُسِهَا، إنَّمَا تَصِحُّ بِدَلَائِلِهَا.
وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَضْرِبُ بِهَذَا مَثَلًا وَيَقُولُ: هَذَا بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ قِيلَ لَهُ: لِمَ سَرَقْتَ الْيَوْمَ؟ فَيَقُولُ: لِأَنِّي سَرَقْتُ أَمْسِ. وَلَوْ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى مِثْلِهِ فِي تَصْحِيحِ الْعِلَّةِ، لَجَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى دَعْوَى الْعِلَّةِ نَفْسِهَا. فَيَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ عِلَّتِي: أَنِّي قُلْته بِهَا.
وَلَوْ جَازَ هَذَا، لَجَازَ أَنْ يَقُولَ مِثْلَهُ فِي نَفْسِ الْمَذْهَبِ الَّذِي طُولِبَ بِتَصْحِيحِهِ.
فَيَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِي دَعْوَايَ: أَنَّهُ صَحِيحٌ، وَهَذَا كُلُّهُ جَهْلٌ وَخَبْطٌ لَا يَعْتَمِدُ عَلَى مِثْلِهِ إلَّا غَبِيٌّ.
فَإِنْ قَالَ: الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الِاعْتِبَارِ أَنَّ اسْتِمْرَارَ الْعِلَّةِ فِي فُرُوعِهَا وَعَدَمَ انْتِقَاضِهَا بِدَفْعِ الْأُصُولِ لَهَا، وَفَقْدَ مُقَاوَمَةِ عِلَّةٍ أُخْرَى لَهَا مُوجِبَةٍ الْحُكْمَ بِخِلَافِ مَا يُوجِبُهَا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَانْتَقَضَتْ، وَدَفَعَتْهَا الْأُصُولُ، وَقَاوَمَهَا مِنْ الْعِلَلِ مَا يُوجِبُ فَسَادَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] فَكَانَ اتِّسَاقُهَا وَعَدَمُ دَفْعِ الْأُصُولِ لَهَا وَمُقَاوَمَةُ عِلَلٍ أُخْرَى