وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ جَازَ عِنْدَنَا تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ، جَازَ تَخْصِيصُ دَلَالَتِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَمِنْ حَيْثُ جَازَ تَخْصِيصُ الِاسْمِ الَّذِي هِيَ مُقْتَضَبَةٌ مِنْهُ، جَازَ تَخْصِيصُهَا، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ اعْتِبَارِهَا فِيمَا لَمْ يَقُمْ فِيهِ دَلَالَةُ التَّخْصِيصِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّا إنَّمَا نُجِيزُ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ بَعْدَ إقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّتِهَا فِي الْأَصْلِ، وَوُجُودُ دَلَائِلِ تَصْحِيحِ الْعِلَّةِ مُخْتَلِفَةٌ، لَيْسَ لَهَا طَرِيقٌ وَاحِدٌ عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّمَا نُجِيزُ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ بَعْدَ قِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّتِهَا فِي الْأَصْلِ.
وَأَمَّا مَا لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ كَوْنِهِ عِلَّةً، فَإِنَّا (لَا) نَعْتَبِرُهُ عِلَّةً.
وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلَ ذَلِكَ: أَنَّ أَبَا الْحَسَنِ قَدْ كَانَ يَسْتَعْمِلُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْعِلَّةِ، وُجُودَ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا وَارْتِفَاعَهُ بِارْتِفَاعِهَا، وَأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْقَائِسِينَ لَيْسَ يَخْلُو مِنْ اعْتِبَارِهِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يُجَوِّزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مَتَى تَعَارَضَتْ عِلَّتَانِ مُتَضَادَّتَانِ فِيمَا تُوجِبَانِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَإِحْدَاهُمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الْحُكْمُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي حَكَيْته عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مِنْ وُجُودِ تَأْثِيرِهِ فِي الْأُصُولِ، وَالْأُخْرَى لَا دَلَالَةَ عَلَيْهَا إلَّا مِنْ جِهَةِ وُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا وَزَوَالِهِ بِزَوَالِهَا، أَنَّ مَا شَهِدَ لَهُ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ مِنْهُمَا أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ، وَكَانَ ذَلِكَ ضَرْبًا مِنْ التَّرْجِيحِ، مُوجِبًا لِكَوْنِهِ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ عِلَّةً، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ جَرْيَ الْعِلَّةِ فِي مَعْلُولَاتِهَا دَلَالَةً عَلَى صِحَّتِهَا، وَإِنْ لَمْ (يُعَضِّدْهَا) دَلَالَةٌ غَيْرُهُ وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَنَا ظَاهِرُ السُّقُوطِ، لَا يَرْجِعُ الْقَائِلُ بِهِ إلَّا إلَى دَعْوَى عَارِيَّةٍ مِنْ الْبُرْهَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ الَّذِي يُعَلِّلُهُ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنْ التَّعَلُّلِ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثِ دَعَاوَى
إحْدَاهَا: دَعْوَى لِلْمَذْهَبِ الَّذِي يُخَالِفُهُ فِيهِ خَصْمُهُ.