مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ حِينَ بَيَّنَهَا لَهُ بِقَوْلِهِ: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ} [الكهف: 79] {وَأَمَّا الْغُلَامُ} [الكهف: 80] {وَأَمَّا الْجِدَارُ} [الكهف: 82] وَعِلَلُ الْأَحْكَامِ إنَّمَا هِيَ أَوْصَافٌ فِي الْأَصْلِ الْمَعْلُولِ لَيْسَ مِنْ عِلَلِ الْمَصَالِحِ فِي شَيْءٍ، وَالْمَصَالِحُ نَفْسُهَا هِيَ الْأَحْكَامُ الَّتِي تَعَبَّدَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهَا، وَقَدْ عَلِمْنَا عِنْدَ وُرُودِ النَّصِّ: أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهَا إلَّا حِكْمَةً وَصَوَابًا، وَإِنْ لَمْ نَقِفْ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ.
وَعِلَلُ هَذِهِ الْمَصَالِحِ إنَّمَا هِيَ فِي الْمُتَعَبَّدِينَ لَا فِي الْحُكْمِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَعَبَّدْنَا بِهَا لَفَسَدْنَا، وَإِذَا تَعَبَّدَنَا بِهَا صَلُحْنَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ عِلَلِ الْأَحْكَامِ فِي شَيْءٍ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا أَنْكَرْتُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَلُ الَّتِي نَسْتَخْرِجُهَا مِمَّا لَا يَتَعَدَّى هِيَ مِنْ عِلَلِ الْمَصَالِحِ.
قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَثْمَانًا، لَيْسَ مِنْ عِلَلِ الْمَصَالِحِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُمَا أَثْمَانًا إنَّمَا كَانَ بِاصْطِلَاحِ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَكَوْنُ الْأَوْلَادِ مِنْ الْأُمَّهَاتِ لَيْسَتْ مِنْ عِلَلِ الْمَصَالِحِ فِي شَيْءٍ، وَأَنْتَ إذَا اسْتَخْرَجْتَ عِلَّةَ النُّصُوصِ فَإِنَّمَا تَسْتَخْرِجُهَا لِتَجْعَلَهَا عِلَّةً لِلْحُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَتْ عِلَّةُ الْأَحْكَامِ عِلَّةَ الْمَصْلَحَةِ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَكْلُ فِي الْبُرِّ بِالْبُرِّ، لَمَّا كَانَ عِنْدَكَ عِلَّةً لِتَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ، أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ أَبَدِيًّا مَوْجُودًا، وَأَنْ لَا يَصِحَّ إبَاحَةُ التَّفَاضُلِ فِيهِمَا مَعَ وُجُودِهِمَا؛ لِأَنَّ عِلَلَ الْمَصَالِحِ غَيْرُ جَائِزٍ وُجُودُهَا عَارِيَّةً مِنْ أَحْكَامِهَا. وَقَدْ عَلِمْنَا وُجُودَ كَوْنِهِ مَأْكُولًا مَعَ إبَاحَةِ التَّفَاضُلِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عِلَلَ الْأَحْكَامِ لَيْسَ مِنْ عِلَلِ الْمَصَالِحِ فِي شَيْءٍ، وَأَنَّ عِلَلَ الْأَحْكَامِ سَبِيلُهَا أَنْ تَكُونَ أَوْصَافًا لِلْأُصُولِ الْمُقْتَضَبِ مِنْهَا الْعِلَلُ.
وَعِلَلُ الْمَصَالِحِ إنَّمَا هِيَ مَعَانٍ فِي الْمُتَعَبَّدِينَ لَا فِي الْأُصُولِ الْمُتَعَبَّدِ بِهَا، وَتِلْكَ الْمَعَانِي لَا نَعْلَمُهَا إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ، وَإِنْ كُنَّا قَدْ عَلِمْنَا فِي الْجُمْلَةِ: أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي الْحُكْمِ الَّذِي تَعَبَّدَنَا بِهِ.