وَأَدَبًا، وَأَمَانَةً وَزَهَادَةً، وَإِشْفَاقًا وَرِفْقًا وَبُعْدًا عَنْ الدَّنَاءَاتِ وَالْكَذِبِ وَالتَّمْوِيهِ {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] ثُمَّ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا بِحَارًا فِي الْعُلُومِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا مِنْ الشَّرْعِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ وَالْحِسَابِيَّاتِ وَالسِّيَاسَاتِ وَالْعُلُومِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ حَتَّى يُرْوَى أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَلَسَ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَتَكَلَّمُ فِي الْبَاءِ مِنْ بِسْمِ اللَّهِ مِنْ الْعِشَاءِ إلَى أَنْ طَلَعَ الْفَجْرُ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَدْرُسُوا وَرَقَةً، وَلَا قَرَءُوا كِتَابًا، وَلَا تَفَرَّغُوا مِنْ الْجِهَادِ وَقَتْلِ الْأَعْدَاءِ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ بِبَرَكَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعْجِزَةٌ إلَّا أَصْحَابُهُ لَكَفَوْهُ فِي إثْبَات نُبُوَّتِهِ وَكَذَلِكَ مَا عُلِمَ مِنْ فَرْطِ صِدْقِهِ الَّذِي جَزَمَ بِهِ أَوْلِيَاؤُهُ، وَأَعْدَاؤُهُ، وَكَانَ يُسَمَّى فِي صِغَرِهِ الْأَمِينُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ فَمَنْ وَقَفَ عَلَى هَذِهِ الْقَرَائِنِ وَعَرَفَهَا مِنْ صَاحِبِهَا جَزَمَ بِصِدْقِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ جَزْمًا قَاطِعًا وَجَزَمَ بِأَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى حَقٌّ وَلِذَلِكَ «لَمَّا أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْرٍ بِنُبُوَّتِهِ قَالَ لَهُ الصِّدِّيقُ صَدَقْتَ» مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى مُعْجِزَةٍ خَارِقَةٍ فَنَزَلَ فِيهِمَا قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33] أَيْ مُحَمَّدٌ جَاءَ بِالصِّدْقِ، وَأَبُو بَكْرٍ صَدَّقَ بِهِ فَمَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا وَلَهُ مِنْ هَذِهِ الْقَرَائِنِ الْحَالِيَّةِ وَالْمَقَالِيَّةِ الْعَجَائِبُ وَالْغَرَائِبُ.
وَأَمَّا السَّاحِرُ فَعَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ لَا تَجِدُهُ فِي مَوْضِعٍ إلَّا مَمْقُوتًا حَقِيرًا بَيْنَ النَّاسِ، وَأَصْحَابَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــS. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــQلِصَاحِبِ الْيَدِ مِنْهُمَا، وَلَا يَقْضِي لَهُ بِمِلْكٍ بَلْ يُرَجِّحُ التَّعَدِّيَ فَقَطْ، وَأَمَّا إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْحِجَاجِ كَمَا إذَا كَانَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا بَيِّنَةً، وَتَسَاوَيَتَا فِي الْعَدَالَةِ رَجَّحَ جَانِبَ الَّذِي بِيَدِهِ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ حَائِزًا فَيَحْكُمُ لَهُ بِهِ مَعَ الْيَمِينِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ عِنْدَ التَّكَافُؤِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لَا يَنْتَفِعُ الْحَائِرُ بِبَيِّنَتِهِ، وَلَا بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي أَوْلَى لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» فَإِنْ نَكَلَ الْحَائِزُ حَلَفَ الْمُدَّعِي، وَحَكَمَ لَهُ بِهِ فَإِنْ نَكَلَ أَقَرَّ عَلَى يَدِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ.
وَعَلَى الْمَشْهُورِ فَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَرْجَحَ قُدِّمَتْ لِأَنَّ الْيَدَ لَا اعْتِبَارَ لَهَا مَعَ الْحُجَّةِ الضَّعِيفَةِ ثُمَّ هَلْ يَحْلِفُ الْخَارِجُ لِأَجْلِ اقْتِرَانِ الْيَدِ بِالْبَيِّنَةِ؟ قَوْلَانِ قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي مِلْكٍ مُطْلَقٍ غَيْرِ مُضَافٍ إلَى سَبَبٍ أَوْ فِي مِلْكٍ غَيْرِ مُطْلَقٍ، وَهُوَ الْمُضَافُ إلَى سَبَبٍ يَتَكَرَّرُ أَوْ لَا يَتَكَرَّرُ فَالْمُطْلَقُ أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً بِأَنَّ هَذَا الشَّيْءَ لَهُ مِلْكًا مُطْلَقًا، وَغَيْرَ مُطْلَقٍ هُوَ الْمُضَافُ إلَى سَبَبٍ، وَهُوَ أَنْ يُبَيِّنَ سَبَبَ الْمِلْكِ مِثْلَ أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً بِأَنَّ هَذَا الْعَبْدَ مِلْكُهُ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ، وَأَنَّ هَذِهِ الدَّابَّةَ نَتَجَتْ فِي مِلْكِهِ، وَأَنَّ هَذَا الثَّوْبَ مِلْكُهُ نَسَجَ فِي مِلْكِهِ ثُمَّ هَذَا السَّبَبُ عَلَى ضَرْبَيْنِ مِنْهُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَكَرَّرَ فِي الْمِلْكِ مِثْلَ الْغِرَاسِ إذَا قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَرَسْته فِي مِلْكِي فَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَكَرَّرَ بِأَنْ يَغْرِسَ دَفْعَتَيْنِ، وَهَكَذَا نَسْجُ الثَّوْبِ الْخَزِّ عَلَى مَا يَقُولُهُ أَهْلُ صَنَعْته يُمْكِنُ أَنْ يَنْسِجَ دَفْعَتَيْنِ، وَمِنْهُ مَا لَا يُمْكِنُ تَكْرَارُهُ كَالْوِدَّةِ وَالنِّتَاجِ وَنَسْجِ ثَوْبِ الْقُطْنِ اهـ كَلَامُ الْأَصْلِ بِتَوْضِيحٍ مِنْ تَبْصِرَةِ ابْنِ فَرْحُونٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْحُجَّةِ فِي الْفَرْقِ السَّادِسِ وَالثَّلَاثِينَ وَالْمِائَتَيْنِ بَيْنَ الْيَدِ الْمُعْتَبَرَةِ الْمُرَجِّحَةِ لِقَوْلِ صَاحِبِهَا، وَالْيَدِ الَّتِي لَا تُعْتَبَرُ فَلَا تُغْفَلُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا اُعْتُبِرَ مِنْ الْغَالِبِ وَبَيْنَ مَا أُلْغِيَ مِنْ الْغَالِبِ أَمَّا مَعَ اعْتِبَارِ النَّادِرِ أَوْ مَعَ إلْغَائِهِ أَيْضًا) :
وَذَلِكَ كَمَا فِي الْأَصْلِ، وَسَلَّمَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا لَا يَتَيَسَّرُ عَلَى الْمُبْتَدَئِينَ، وَلَا عَلَى ضَعْفَةِ الْفُقَهَاءِ بَلْ لَا يَحْصُلُ إلَّا لِمُتَّسِعٍ فِي الْفَقِيهَاتِ، وَالْمَوَارِدِ الشَّرْعِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ الْغَالِبِ، وَتَقْدِيمُهُ عَلَى النَّادِرِ، وَهُوَ شَأْنُ الشَّرِيعَةِ، وَأَمْثِلَتُهُ لَا تُحْصَى كَثْرَةً مِنْهَا تَقْدِيمُ طَهَارَةِ الْمِيَاهِ، وَعُقُودِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ وَمِنْهَا أَنَّهُ يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ، وَيُفْطِرُ بِنَاءً عَلَى غَالِبِ الْحَالِ، وَهُوَ الْمَشَقَّةُ وَمِنْهَا أَنَّهُ يَمْنَعُ شَهَادَةَ الْأَعْدَاءِ، وَالْخُصُومِ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْهُمْ الْحَيْفُ، وَلَكِنْ جَرَى عَلَى خِلَافِ هَذَا الْأَصْلِ أَجْنَاسُ كَثِيرَةٌ اُسْتُثْنِيَتْ مِنْهُ سَتَتَّضِحُ لَك فَإِذَا وَقَعَ لَك غَالِبٌ، وَلَا تَدْرِي هَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا أُلْغِيَ أَوْ مِنْ قَبِيلِ مَا اُعْتُبِرَ فَالطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ أَنْ تَسْتَقْرِيَ مَوَارِدَ النُّصُوصِ، وَالْفَتَاوَى اسْتِقْرَاءً حَسَنًا، وَلَا يَتَأَتَّى لَك ذَلِكَ إلَّا إذَا كُنْت حِينَئِذٍ وَاسِعَ الْحِفْظِ جَيِّدَ الْفَهْمِ فَإِذَا تَحَقَّقَتْ بِذَلِكَ إلْغَاؤُهُ فَذَاكَ ظَاهِرٌ، وَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ لَك إلْغَاؤُهُ فَاعْتَقِدْ أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ، وَالْأَجْنَاسُ الْمُسْتَثْنَاةُ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ عَلَى قِسْمَيْنِ
(الْقِسْمُ الْأَوَّلُ) مَا أَلْغَى الشَّرْعُ فِيهِ الْغَالِبَ، وَقَدَّمَ النَّادِرَ عَلَيْهِ أَيْ أَثْبَتَ الشَّرْعُ فِيهِ حُكْمَ النَّادِرِ دُونَ حُكْمِ الْغَالِبِ رَحْمَةً بِالْعِبَادِ
(وَالْقِسْمُ الثَّانِي) مَا أَلْغَى الشَّرْعُ فِيهِ الْغَالِبَ، وَالنَّادِرَ مَعًا رِعَايَةً لِلضَّرُورَةِ وَرَحْمَةً بِالْعِبَادِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقِسْمَيْنِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ تَفْتَقِرُ عَلَى التَّمْثِيلِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بِعِشْرِينَ مِثَالًا فِي الْوَصْلَيْنِ الِاثْنَيْنِ لِتَجْزِمَ بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ إذَا دَارَ الشَّيْءُ بَيْنَ النَّادِرِ