فَمَا سَمِعَهُ الْمُكَلَّفُ أَوْلَى أَنْ يَعْمَلَ بِهِ، وَيَحْكُمَ بِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْفُتْيَا تُثْبِتُ شَرْعًا عَامًّا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْقَضَاءُ فِي فَرْدٍ لَا يَتَعَدَّى لِغَيْرِهِ فَخَطَرُهُ أَقَلُّ.
(وَسَابِعُهَا) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَحْكُمْ بِعِلْمِهِ لَفَسَقَ فِي صُوَرٍ مِنْهَا أَنْ يَعْلَمَ وِلَادَةَ امْرَأَةٍ عَلَى فِرَاشِ رَجُلٍ فَيَشْهَدَ أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ فَإِنْ قَبِلَ الْبَيِّنَةَ مَكَّنَهُ مِنْ وَطْئِهَا، وَهِيَ ابْنَتُهُ، وَهُوَ فِسْقٌ، وَإِلَّا حَكَمَ بِعِلْمِهِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَمِنْهَا أَنْ يَعْلَمَ قَتْلَ زَيْدٍ لِعَمْرٍو فَتَشْهَدُ الْبَيِّنَةُ بِأَنَّ الْقَاتِلَ غَيْرُهُ فَإِنْ قَتَلَهُ قَتَلَ الْبَرِيءَ، وَهُوَ فِسْقٌ، وَإِلَّا حَكَمَ بِعِلْمِهِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَمِنْهَا لَوْ سَمِعَهُ يُطَلِّقُ ثَلَاثًا فَأَنْكَرَ فَشَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ بِوَاحِدَةٍ إنْ قَبِلَ الْبَيِّنَةَ مَكَّنَ مِنْ الْحَرَامِ، وَإِلَّا حَكَمَ بِعِلْمِهِ
(وَثَامِنُهَا) «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشْتَرَى فَرَسًا فَجَحَدَهُ الْبَائِعُ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَنْ يَشْهَدُ لِي فَقَالَ خُزَيْمَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَشْهَدُ لَك فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَ تَشْهَدُ، وَلَا حَضَرْت فَقَالَ خُزَيْمَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخْبِرُنَا عَنْ خَبَرِ السَّمَاءِ فَنُصَدِّقُك أَفَلَا نُصَدِّقُك فِي هَذَا فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَا الشَّهَادَتَيْنِ» فَهَذَا، وَإِنْ اسْتَدَلَّ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى عَدَمِ الْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ فَهُوَ يَدُلُّ لَنَا مِنْ جِهَةِ حُكْمِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِنَفْسِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لِغَيْرِهِ بِعِلْمِهِ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ فِي التُّهْمَةِ مِنْ الْقَضَاءِ لِنَفْسِهِ بِالْإِجْمَاعِ
(وَتَاسِعُهَا) الْقِيَاسُ عَلَى التَّجْرِيحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ قِصَّةَ هِنْدَ فُتْيَا لَا حُكْمٌ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّبْلِيغُ فُتْيَا لَا حُكْمٌ وَالتَّصَرُّفُ بِغَيْرِهَا قَلِيلٌ فَيُحْمَلُ عَلَى الْغَالِبِ، وَلِأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ حَاضِرًا فِي الْبَلَدِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُقْضَى عَلَى حَاضِرٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفَ، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّهُ مِنْ بَابِ إزَالَةِ الْمُنْكَرِ الَّذِي يَحْسُنُ مِنْ آحَادِ النَّاسِ لَا مِنْ بَابِ الْقَضَاءِ فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّهُ مِنْ بَابِ الْقَضَاءِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهَا وَاقِعَةٌ غَيْرَ مُتَرَدِّدَةٍ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَتَكُونُ مُجْمَلَةً فَلَا يُسْتَدَلُّ بِهَا، وَعَنْ الثَّالِثِ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّ الْحُكْمَ بِالْعِلْمِ مِنْ الْقِسْطِ بَلْ هُوَ عِنْدَنَا مُحَرَّمٌ، وَعَنْ الرَّابِعِ أَنَّ الْعِلْمَ أَفْضَلُ مِنْ الظَّنِّ إلَّا أَنَّ اسْتِلْزَامَهُ لِلتُّهْمَةِ وَفَسَادِ مَنْصِبِ الْقَضَاءِ أَوْجَبَ مَرْجُوحِيَّتَهُ لِأَنَّ الظَّنَّ فِي الْقَضَاءِ يَخْرِقُ الْأُبَّهَةَ، وَيَمْنَعُ مِنْ نُفُوذِ الْمَصَالِحِ، وَعَنْ الْخَامِسِ أَنَّ التُّهْمَةَ مَعَ مُشَارَكَةِ الْغَيْرِ أَضْعَفُ بِخِلَافِ مَا يَسْتَقِلُّ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ التُّهَمَ كُلَّهَا لَيْسَتْ مُعْتَبَرَةً بَلْ بَعْضُهَا، وَعَنْ السَّادِسِ أَنَّ الرِّوَايَةَ وَالسَّمَاعَ وَالرُّؤْيَةَ اسْتَوَى الْجَمِيعُ لِعَدَمِ الْمُعَارِضِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْعِلْمِ بِخِلَافِ الْحُكْمِ، وَعَنْ السَّابِعِ أَنَّ تِلْكَ الصُّوَرِ لَمْ يَحْكُمْ فِيهَا بِعِلْمِهِ بَلْ تَرَكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــS. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــQلَهُ مِنْ أَنْ يُخْبِرَ زَوْجَتَهُ بِخَبَرٍ يَقْتَضِي تَغَيُّظَهَا بِهِ كَأَنْ يُخْبِرَهَا عَنْ فِعْلِهِ مَعَ غَيْرِهَا مِنْ النِّسَاءِ بِمَا لَمْ يَفْعَلْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ تَغَيُّظًا بِزَوْجَتِهِ، وَسُوِّغَ لَهُ الْوَعْدُ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْإِخْلَافُ لِاحْتِمَالِ الْوَفَاءِ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ عَازِمًا عِنْدَ الْوَعْدِ عَلَى الْوَفَاءِ أَوْ عَلَى الْإِخْلَافِ أَوْ مُضْرِبًا عَنْهُمَا، وَيَتَخَرَّجُ ذَلِكَ فِي قِسْمِ الْعَزْمِ عَلَى الْإِخْلَافِ عَلَى الرَّأْيِ الصَّحِيحِ الْمُتَصَوَّرِ عِنْدِي مِنْ أَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَا مُؤَاخَذَةَ بِهِ إذْ مُعْظَمُ دَلَائِلِ الشَّرِيعَةِ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ الْإِخْلَافِ، وَأَنَّ السَّائِلَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا قَصَدَ الْوَعْدَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَسَأَلَ عَنْهُ لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ فِي عَدَمِ الْوَفَاءِ إضْرَارًا أَوْ اخْتِيَارًا قَائِمٌ، وَرَفَعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ الْجُنَاحَ لِاحْتِمَالِ الْوَفَاءِ ثُمَّ إنَّهُ إنْ وَفَى فَلَا جُنَاحَ، وَإِنْ لَمْ يَفِ مُضْطَرًّا فَكَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَفِ مُخْتَارًا فَالظَّوَاهِرُ الْمُتَضَافِرَةُ قَاضِيَةٌ بِالْحَرَجِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَجْعَلْ الْوَعْدَ قَسِيمًا لِلْكَذِبِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذِبٌ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ قَسِيمًا لِلْخَبَرِ عَنْ غَيْرِ الْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي هُوَ كَذِبٌ فَكَانَ قَسِيمَهُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُسْتَقْبَلًا، وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَقْبَلٍ أَوْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ قَدْ تَعَيَّنَ أَنَّهُ كَذِبٌ، وَالْوَعْدُ لَا يَتَعَيَّنُ أَنَّهُ كَذِبٌ.
وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنَعَ السَّائِلَ مِنْ الْكَذِبِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمُسْتَقْبَلِ فَمُجَرَّدُ دَعْوَى لَمْ تَقُمْ عَلَيْهَا حُجَّةٌ، وَلَا يَتَعَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ مَا قَالَهُ كَيْفَ، وَأَنَّ مَا قَالَهُ هُوَ عَيْنُ الْوَعْدِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَا يُخْبِرُهَا عَنْ وُقُوعِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُتَعَلِّقًا بِهَا، وَإِلَّا فَلَا حَاجَةَ لَهَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهَا، وَمَا قِيلَ إنَّ السَّائِلَ لَمْ يَقْصِدْ الْوَعْدَ الَّذِي نَفَى بِهِ بَلْ قَصَدَ الْوَعْدَ الَّذِي لَا نَفْيَ فِيهِ عَلَى التَّعْيِينِ فَمُجَرَّدُ دَعْوَى كَذَلِكَ إذْ مِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ، وَعَلَى أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ الْوَعْدِ غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ مِمَّا وَعَدَ بِهِ مِنْ أَيْنَ يَعْلَمُ عَدَمَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ عِلْمُهُ بِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ سِوَاهُ لِاحْتِمَالِ عَدَمِ الْوَفَاءِ أَوْ الْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْوَفَاءِ فَسُوِّغَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ، وَأَنَّ عَدَمَ الْوَفَاءِ لَا يَتَعَيَّنُ أَوْ لِأَنَّ الْعَزْمَ عَلَى عَدَمِ الْوَفَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ عَدَمَ الْوَفَاءِ مَعْصِيَةٌ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ.
(الْوَجْهُ الثَّالِثُ) أَنَّ فِي حَمْلِ حَدِيثِ الْمُوَطَّإِ عَلَى مَا ذُكِرَ، وَحَمْلِ حَدِيثِ أَبِي دَاوُد عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَفِ مُضْطَرًّا قُرْبًا، وَفِي حَمْلِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا عَلَى مَا قَالَهُ الشِّهَابُ بُعْدًا أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ النُّصُوصَ الدَّالَّةَ عَلَى دُخُولِ الصِّدْقِ فِي وَعْدِهِ تَعَالَى وَوَعِيدِهِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةُ وَارِدٌ لَازِمٌ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الشِّهَابُ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ سَاقِطٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْحَقَائِقَ لَا تَتَغَيَّرُ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ الْمُخْبَرِ بِهَا عَنْهَا، وَلَا بِحَسَبِ حَالٍ دُونَ حَالٍ فَالْخَبَرُ الْقَابِلُ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ قَابِلٌ لَهُمَا، وَالْخَبَرُ الْقَابِلُ