جِلْدِهَا فَيَنْتَفِعُ بِهِ أَوْ بِغَيْرِ دِبَاغٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَنَافِعِ غَيْرِ الْمَقْصُودَةِ عَادَةً، وَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ الضَّمَانِ عَلِمْنَا أَنَّ الضَّمَانَ مُضَافٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا مِنْهَا، وَهُوَ ذَهَابُ الْمَقْصُودِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الْحُكْمِ عَمَلًا بِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمُوجِبِ.
(الثَّانِي) أَنَّهُ لَوْ غَصَبَ عَسَلًا وَشَيْرَجًا وَنَشًا فَعَقَدَ الْجَمِيعَ فَالُوذَجًا ضَمِنَ عِنْدَهُمْ مَعَ بَقَاءِ مَنَافِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ الْمَالِيَّةِ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا
(وَثَالِثُهَا) أَنَّهُ لَوْ غَصَبَ عَبْدًا فَأَبَقَ أَوْ حِنْطَةً فَبَلَّهَا بَلَلًا فَاحِشًا ضَمِنَ عِنْدَهُمْ مَعَ بَقَاءِ التَّقَرُّبِ فِي الْأَوَّلِ بِالْعِتْقِ وَبَقَاءِ الْمَالِيَّةِ فِي الثَّانِي لَكِنْ جُلُّ الْمَقْصُودِ ذَهَبَ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا، وَلَا يُقَالُ فِي الْآبِقِ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَمِيعِ الْعَيْنِ، وَفِي الْحِنْطَةِ بِتَدَاعِي الْفَسَادِ إلَيْهَا بِالْبَلَلِ لِأَنَّا نَقُولُ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَقْصُودِهِ، وَأَفْسَدَهُ عَلَيْهِ نَاجِزًا مَعَ إمْكَانِ تَجْفِيفِ الْحِنْطَةِ، وَعَمَلِهَا سَوِيقًا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَنَافِعِ، وَاحْتَجُّوا بِأَمْرَيْنِ
(الْأَوَّلُ) قَوْله تَعَالَى {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وَالِاعْتِدَاءُ حَصَلَ فِي الْبَعْضِ فَتَلْزَمُهُ قِيمَةُ الْبَعْضِ
(وَثَانِيهِمَا) أَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَةَ لَوْ حَصَلَتْ فِي غَيْرِ بَغْلَةِ الْقَاضِي أَوْ الْأَمِيرِ لَمْ تَلْزَمْهُ الْقِيمَةُ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى عَبْدِهِ أَوْ دَارِهِ لِأَنَّ تَقْوِيمَ الْمُتْلَفَاتِ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ إنَّمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ وَالْأَزْمَانِ، وَيُؤَكِّدُهُ أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ ذَنَبَ حِمَارِ التُّرَابِ أَوْ خَرَقَ ثَوْبَ الْحَطَّابِ لَمْ يَلْزَمْهُ جَمِيعُ الْقِيمَةِ مَعَ تَعَذُّرِ بَيْعِهِ مِنْ الْأَمِيرِ، وَالْقَاضِي لِأَنَّهُمَا لَا يَلْبَسَانِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْقَطْعِ الْيَسِيرِ، وَلَوْ قَطَعَ أُذُنَ الْأَمِيرِ نَفْسِهِ أَوْ أَنْفَ الْقَاضِي لَمَا اخْتَلَفَتْ الْجِنَايَةُ فَكَيْفَ بِدَابَّتِهِ مَعَ أَنَّ شَيْنَ الْقَاضِي بِقَطْعِ أَنْفِهِ أَشَدُّ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ لِاقْتِضَائِهِ أَنْ يَعْوَرَّ فَرَسُ الْجَانِي كَمَا عَوِرَ فَرَسُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إجْمَاعًا، وَقِيلَ إنَّ الْآيَةَ وَرَدَتْ فِي الدِّمَاءِ لَا فِي الْأَمْوَالِ، وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] أَيْ أَنْفُسَكُمْ إنَّمَا تَنَاوَلَ أَنْفُسَنَا لِأَنَّهُ ضَمِيرُ الْأَنْفُسِ، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الدَّارَ جُلُّ مَقْصُودِهَا حَاصِلٌ بِخِلَافِ الْفَرَسِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَا يَخْتَلِفُ التَّقْوِيمُ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ بَلْ يَخْتَلِفُ فَإِنَّ الدَّابَّةَ الصَّالِحَةَ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ كَالْقُضَاةِ وَالْخُطَبَاءِ أَنْفَسُ قِيمَةً لِعُمُومِ الْأَغْرَاضِ فِيهَا، وَلِتَوَقُّعِ الْمُنَافَسَةِ فِي الْمُزَايَدَةِ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ الَّتِي لَا تَصْلُحُ إلَّا لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ، وَأَمَّا أُذُنُ الْأَمِيرِ وَأَنْفُ الْقَاضِي فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ مَزَايَا الرِّجَالِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي بَابِ الدِّمَاءِ وَمَزَايَا الْأَمْوَالِ مُتَغَيِّرَةٌ فَدِيَةُ أَشْجَعِ النَّاسِ، وَأَعْلَمِهِمْ كَدِيَةِ أَجْبَنِ النَّاسِ وَأَجْهَلِهِمْ فَأَيْنَ أَحَدُ الْبَابَيْنِ مِنْ الْآخَرِ.
(تَمْهِيدٌ) تَحَصَّلَ أَنَّ النَّقْصَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ تَارَةً تَذْهَبُ الْعَيْنُ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَهُ طَلَبُ الْقِيمَةِ اتِّفَاقًا، وَتَارَةً
ـــــــــــــــــــــــــــــS. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعَمَلُ الْمَعْلُومُ مِنْ تَعْيِينِهِ ... يَجُوزُ فِيهِ الْأَجْرُ مَعَ تَبْيِينِهِ
وَلِلْأَجِيرِ أُجْرَةُ مُكَمِّلِهِ ... إنْ تَمَّ أَوْ بِقَدْرِ مَا قَدْ عَمِلَهُ
إنَّ الْعَمَلَ الْمَعْلُومَ مِنْ أَجْلِ تَعَيُّنِ حَدِّهِ بِالْعَمَلِ أَوْ بِالْأَجَلِ وَذِكْرِ صِفَتِهِ (فَالْأَوَّلُ) كَقَوْلِهِ أُؤَاجِرُك عَلَى صَبْغِ هَذَا الثَّوْبِ أَوْ دَبْغِ هَذَا الْجِلْدِ أَوْ خِيَاطَةِ هَذَا الثَّوْبِ، وَبَيَّنَ لَهُ صِفَةَ الصَّبْغِ وَالدَّبْغِ وَالْخِيَاطَةِ (وَالثَّانِي) كَقَوْلِهِ أُؤَاجِرُك عَلَى بِنَاءِ يَوْمٍ أَوْ خِيَاطَةِ شَهْرٍ أَوْ حِرَاثَةِ يَوْمَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَالْعَمَلُ الَّذِي هُوَ الدَّبْغُ وَالصَّبْغُ وَنَحْوُهُمَا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لَهُمَا، وَلَا بُدَّ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا إمَّا بِالْفَرَاغِ مِنْهُ كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ وَطَحْنِ إرْدَبٍّ، وَإِمَّا بِضَرْبِ أَجَلٍ كَخِيَاطَةِ يَوْمٍ أَوْ صَبْغِهِ أَوْ دَبْغِهِ أَوْ طَحْنِهِ فَالْمَصْنُوعَاتُ إمَّا أَنْ تُحَدَّدَ بِالْفَرَاغِ أَوْ بِالْأَجَلِ وَغَيْرِهَا كَالرِّعَايَةِ وَالْخِدْمَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَنَحْوِهِمَا يُحَدُّ بِضَرْبِ الْأَجَلِ لَا غَيْرُ فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَجَلِ وَالْعَمَلِ كَقَوْلِهِ خِطْ هَذَا الثَّوْبَ فِي هَذَا الْيَوْمِ بِدِرْهَمٍ أَوْ أَكْتَرِي مِنْك دَابَّتَك لِتَرْكَبَهَا إلَى مَحَلِّ كَذَا فِي هَذَا الْيَوْمِ أَوْ أُؤَاجِرُك لِتُوَصِّلَ الْكِتَابَ لِمَحَلِّ كَذَا فِي هَذَا الْيَوْمِ أَوْ الشَّهْرِ بِدِرْهَمٍ فَهَلْ تَفْسُدُ مُطْلَقًا أَوْ إنَّمَا تَفْسُدُ إنْ كَانَ الْأَجَلُ مُسَاوِيًا لِلْعَمَلِ أَوْ أَنْقَصَ مِنْهُ لَا إنْ كَانَ الْأَجَلُ أَكْثَرَ مِنْ الْعَمَلِ فَلَا تَفْسُدُ فِيهِ خِلَافُ خَلِيلٍ، وَهَلْ تَفْسُدُ إنْ جَمَعَهُمَا، وَتُسَاوِي أَوْ مُطْلَقًا خِلَافٌ، وَمِنْ ذَلِكَ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى بَيْعِ ثَوْبٍ مَثَلًا لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ الْبَيْعُ فِي مَقْدُورِ الْأَجِيرِ كَانَ جَعَالَةً إنْ حَدَّهُ بِالْعَمَلِ، وَهُوَ تَمَامُ الْعَمَلِ وَإِجَارَةً إنْ حَدَّهُ بِالزَّمَنِ، وَيَسْتَحِقُّ أَجْرَهُ بِمُضِيِّ الزَّمَنِ حِينَئِذٍ، وَإِنْ لَمْ يَبِعْ اهـ.
الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا مَصْلَحَتُهُ مِنْ الْعُقُودِ فِي اللُّزُومِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا مَصْلَحَتُهُ مِنْهَا فِي عَدَمِ اللُّزُومِ) اعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَقْدِ اللُّزُومُ لِأَنَّهُ إنَّمَا شُرِعَ لِتَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ مِنْ الْمَعْقُودِ بِهِ أَوْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَدَفْعِ الْحَاجَاتِ، وَالْمُنَاسِبُ لِذَلِكَ هُوَ اللُّزُومُ إلَّا أَنَّ الْعُقُودَ مَعَ هَذَا الْأَصْلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى لُزُومِهَا بِالْقَوْلِ وَعَدَمِ لُزُومِهَا بِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مَا يَلْزَمُ اتِّفَاقًا أَوْ عَلَى الرَّاجِحِ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ النِّكَاحُ وَالْبَيْعُ وَالْكِرَاءُ وَالْمُسَاقَاةُ، وَمَا لَا يَلْزَمُ بِهِ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ الْجُعَلُ وَالْقِرَاضُ وَالتَّوْكِيلُ وَالتَّحْكِيمُ، وَمَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ هَلْ يَلْزَمُ بِهِ أَمْ لَا، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ ابْنُ غَازِيٍّ:
أَرْبَعَةٌ بِالْقَوْلِ عَقْدُهَا فَرَا ... بَيْعٌ نِكَاحٌ وَسِقَاءٌ وَكِرَا
لَا الْجُعْلُ وَالْقِرَاضُ وَالتَّوْكِيلُ ... وَالْحُكْمُ بِالْفِعْلِ بِهَا كَفِيلُ
لَكِنْ فِي الْغِرَاسِ وَالْمُزَارَعَهْ ... وَالشَّرِكَاتِ بَيْنَهُمْ مُنَازَعَهْ